ساكنة الصورة

ساكنة الصورة

18 ابريل 2016
ذكريات (Getty)
+ الخط -

مساء الأمس، أرسلت لي أمي عبر "واتساب" صورة مرفقة بكلمتين إثنتين: "العمر غفلة". حينها، كنت قد تسلّلت تحت الأغطية في غرفتي بينما هي في غرفتها. لا بد من أنّها سمعت رنّة تلقّي رسالة على هاتفي، فضحكت هي قبل أن أجيب. ضحكة خفيفة يكاد صوت الرنة يكون أقوى من صوتها. لا يفصل بيننا سوى رواق ضيّق وبابين. مع ذلك، لا أدرك تماماً من أي جهة انبعث هذا الهواء حتى جاءت ضحكتها كـ "نسمة أو بسمة أو راحة بال". في الحقيقة، الحديث عن نسمات وبسمات أكثر صدقاً من أيّ شيء آخر. إذ إن راحة البال من شؤون النهار تترافق والشمس فتشرق معها وتغيب بعدها بقليل. راحة البال تقتات من عملنا وأشغالنا وانشغالاتنا العدّة، ومن كلام نفرش فيه السكوت كبيت لئلا يبقى موحشاً. لكنه يبقى موحشاً، فنزيد ونستزيد في الكلام: ثريّات وسجّاد ومزهريّة ومنفضة من فضّة وأكواب من زجاج مزحرف. النسمات والبسمات أكثر صدقاً لأنّ الضحكة حدثت ليلاً، حيث يسرح البال ويمرح ويجول بحرية في أرجاء الغرفة، ويعبث بالبيت والفرش ويعيده فارغاً، ويلعب معنا أو يتلاعب بنا. البال لا يرتاح لمّا نكون نحن متعبين.

في الصورة صفّ من أربعة أشخاص من اليمين إلى اليسار: خالة أمّي، جدتي لأمي، ابن الخالة التي تظهر أيضاً، وأمي نفسها عندما كانت عزباء. أجول على الأربعة، وأعيد وأكرر الجولة حتى أصل إلى جدتي. أكثر ما يهمني وجهها. بإصبعين على الشاشة، أقرّب وجهها ليتأخذ المساحة بالكامل فيختفي الآخرون. إلى جانبها في الصورة، كانت أختها تضحك ملء فمها. أمّا وجهها هي، فكان على وشك أن يضحك وشفتاها مزمومتان لا تخطئان.

ضحكتها خفيفة وجاءت كـ "نسمة أو بسمة أو راحة بال". لكن المصوّر باغتها، والتقط الصورة قبل أن تكتمل الضحكة. والحياة أيضاً باغتتها قبل أن تكتمل الصورة. تيتّمت قبل أن يكتمل عدد أفراد أسرتها. بكت قبل أن تستطيع أن تفهم، وتزوّجت قبل أن تحبّ. زمّت قلبها وكوّرته ووضعته بين شفتيها على رأس لسانها. تدعو من خلالها أولادها وأحفادها بسعادة الأرض والسماء، وتدعو لموتاها بالرحمة عدد حبات التراب التي رشّت على قبورهم. لكنها أيضاً تجيد الفرح، وخصوصاً في إهدن التي تسمّيها "الجرد"، فتغنّي لأهل بيتها وضيوفه مواويل حفظتها من أيّام والدها الذي كان يغنّي لها: "كل مشتاق يدوّر عاللي لُه، يا با كل طبيب يداوي عليلُه، نسيمك يا إهدن ما أطيب عليلُه، إذا بدربُه حبيب القلب شاف".

هذه الصورة مع الصور التي تحتويها كلّها من الماضي منذ أكثر من 25 عاماً. مرّ نحو ربع قرن منذ ضغط المصوّر على الزّر. تحت الأغطية، لا يرتاح بالي فعلاً. كيف يحدث أن أشعر أنّني كنت أنا نفسي في مكان ما على مقربة من المصوّر؟ ربما خلفه أو إلى جانبه، أحاول أن أشير بيدي إلى الأربعة لكي ينظروا نحو العدسة. كيف يحدث أنّني لا أتخيّل جدّتي جالسة على عتبة بيت أهلها، بل أتذكّرها "كأنّه مبارح (أمس)"؟ كيف يحدث أن تحمل امرأة واحدة كل هذا الإرث، وتنقله إليّ من غير أوراق أو معاملات أو إمضاء؟

أضع إصبعيّ مجدداً على الشاشة وأنظر مرّة أخرى إلى وجه حفظته، لأنه وجهي أنا أيضاً. إرث أحمله منها منذ أن ولدت، ثم أعيد وجه جدّتي إلى مكانه. حان الآن دور وجه أمي.


دلالات

المساهمون