إدراك

إدراك

21 ابريل 2020
في مرمى النظر (تصوير: سول ليتر)
+ الخط -

في وسط القاعة الكبيرة حيث جلس عشرات الشباب في ما يشبه حلقة كبيرة، طاولة صغيرة مربّعة وُضعت عليها مجموعة من الأغراض التي تختلف طبيعتها. بعدما رفع المنشّط الغطاء عنها، طلب من المشاركين في ورشة العمل تلك وضعَ قائمة بالموجودات، كلّ واحد من موقعه. فدوّنوا ما التقطته أعينهم واحتفظوا بأوراقهم الصغيرة في انتظار استعراض النتائج في نهاية الجلسة. كان ذلك واحداً من تمارين ورشة عمل أعدّتها جمعيّة حقوقيّة ناشطة في لبنان، في منطقة واقعة خارج العاصمة بيروت، قبل زمن... في نهاية تسعينيّات القرن الماضي.

ما دُوِّن على تلك الأوراق أتى متبايناً عشرات المرّات، ولو بشكل طفيف. فكلّ مشارك في التمرين سجّل ما وقع في مرمى نظره، لتفوته أشياء وأشياء كانت قد وُضعت على الطاولة الصغيرة المربّعة. وأتت الخلاصة علميّة غير معقّدة: لا يمكن لأيّ كان إدراك ما لا يقع في مجال رؤيته. ولكلّ واحد مجاله الخاص الذي تحكمه عناصر مختلفة، منها - في هذا التمرين - موقعه الجغرافيّ وطول قامته وحدّة بصره وتركيزه الذهنيّ. إذاً، الأمر بهذه البساطة.

بالنسبة إلى بعض المشاركين، لم يكن ثمّة طائل من هذا التمرين، فما خلُص إليه يُعَد من البديهيّات. هو أمر بديهيّ، هذا صحيح، إلا أنّنا نغفله في يوميّاتنا. أمر واقع لا يمكن إنكاره، وإن حاولنا ادّعاء غير ذلك. ربّما يأتي إغفاله عن قصد أو عن غير قصد، إلا أنّه حاصل. بالنسبة إلينا، إلى كلّ واحد منّا، ما نراه هو الحقيقة المطلقة وكلّ ما عدا ذلك باطل. في بعض الأحيان، نحاول الاستدراك والإقرار بأنّ لكلّ فرد مرمى نظره الخاص، إلا أنّنا نعجز كثيراً عن الاعتراف بصواب غير صوابنا نحن. قد نكون في حاجة إلى تمارين تشبه المذكور آنفاً وتكرارها، مع علمنا بأنّ ثمّة عوامل كثيرة قد تشوّشنا.



من غير السهل التسليم بأنّنا قد لا نكون على حقّ أو بأنّنا - على أقلّ تقدير - لا نملك الحقيقة كاملة. ونعود إلى خلاصة تمرين الجمعيّة الحقوقيّة: لا يمكن لأيّ كان إدراك ما لا يقع في مجال رؤيته. والإدراك عموماً، بحسب ما يعرّفه هؤلاء الذين يحاولون الغوص في النفس البشريّة وهؤلاء الذين يحاولون سبر أحوال المجتمع وأهله، هو ذلك النشاط الذي يختبر المرء من خلاله الأمور في بيئته. وهذا النشاط يرتكز عادة على معلومات تصل إليه عبر حواسه، علماً أنّ الإدراك لدى الإنسان يرتبط كذلك بآليّات المعرفة/ الفهم. في سياق متّصل، يميّز علم النفس التجريبيّ درجات من الإدراك الواعي من جهة ومن الإدراك اللاواعي من جهة أخرى. ويوصف الأخير أحياناً بالضمنيّ أو بأنّه دون عتبة إدراك الحواس. يبقى أنّ إدراك موقف ما يستدعي في وقت واحد الحواس الفيزيولوجيّة للكائن الحيّ وقدراته المعرفيّة، وذلك على مستوى أوّليّ أو واعٍ. هل ندرك ذلك؟

المساهمون