انكأ جرحاً... وآمن

انكأ جرحاً... وآمن

21 يناير 2020
"شكّ القدّيس توما" بريشة كارافاجيو (Getty)
+ الخط -

يُحكى أنّ توما الرسول، أحد تلاميذ يسوع المسيح الاثنَي عشر، شكّك في قيامته. في إنجيله، ينقل يوحنا الرسول عنه: "إِنْ لم أُبصر في يدَيه أثر المسامير، وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه، لا أومِن". يكمل يوحنا الرائيّ أنّ يسوع دعاه: "هاتِ إصبعك إِلى هنا وأَبصر يدَيّ، وهاتِ يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمنٍ بل مؤمناً". على الأثر، نطق توما: "ربّي وإلهي!". فقال يسوع: "لأنّك رأيتني يا توما آمنتَ! طوبى للّذين آمنوا ولم يروا".

في لوحة زيتيّة شهيرة تعود إلى بداية القرن السابع عشر، نقل الفنّان الإيطالي كارافاجيو (ميكيلانجلو ميريزي) المشهد، تحت عنوان "شكّ القدّيس توما". المسيحيّون حول العالم لطالما أولوا ما حدث في ذلك الزمن أهميّة كبرى. في الأمر ارتباط وثيق بمسألة إيمانهم. اليوم، بعد نحو ألفيّتَين، ما زال اسم توما المتشكّك يُردَّد في أكثر من ناحية في لبنان وغيره من بلدان المنطقة، كلّما استهجن أحدهم التباساً عند شخص أو آخر، بعيداً عن الدين. هو ترسَّخ في الثقافة الشعبيّة رمزاً للشكّ.

الشكّ أمر مشروع. وقد ذهب الفيلسوف الفرنسيّ رينيه ديكارت أبعد من ذلك، إذ قال: "أنا أشكّ إذاً أنا موجود". فيُعَدّ مبرَّراً البحث عن أدلّة وبراهين لبلوغ اليقين. هي أدلّة وبراهين لا بدّ من أن تراها العين. هكذا نظنّ. كُثر نحن الذين لا ندرك ما لا تراه أعيننا، وإن كان ثمّة ما لا يُرى وما لا يُلمَس. ثمّة جراح غائرة عميقاً في الروح وليس في لحم الجسد، تحكي قصص آلام أهملها كُثر وقد أسقطوها من حساباتهم. الإهمال جائز. فهؤلاء لن يتمكّنوا من غرز أصابعهم في الجراح المفتوحة ليتثبّتوا من تقرّحها.

في الإعلان العالميّ بشأن القضاء على العنف ضدّ المرأة المُتبنّى في عام 1993، عُرّف ذلك العنف بأنّه "أيّ فعل عنيف قائم على أساس الجنس ينجم عنه أو يُحتمل أن ينجم عنه أذى أو معاناة بدنيّة أو جنسيّة أو نفسيّة للمرأة، بما في ذلك التهديد باقتراف مثل ذلك الفعل أو الإكراه أو الحرمان التعسّفيّ من الحريّة، سواء أوقع ذلك في الحياة العامة أم الخاصة". وتبقى الكدمات الملوّنة التي توثّق "العنف" هي ما يستجلب التعاطف وكذلك حماسة المتشدّقين في الدفاع عن المرأة. الكدمات باختلاف ألوانها، حمراء أو بنفسجيّة داكنة أو خضراء شاحبة أو صفراء وبنيّة، تستوجب حملات حقوقيّة.



الدليل واضح. لا مجال للشكّ في "العنف" الواقع. وماذا عن آخَر لم يخلّف كدمات ملوّنة في جسد امرأة؟ ذلك الذي يُصنَّف نفسيّاً أو معنويّاً أو سمّه ما شئت؟ الإعلان العالميّ كان واضحاً في ذكره إلى جانب البدنيّ والجنسيّ. هو قائم وإن لم ترَه عين ولم تلمسه يد. نشكّك فيه ونمدّ أصابعنا لنتثبّت منه. ننكأ قشور قراح الروح ونمضي ونحن نغرز أصابعنا أعمق فأعمق. توما.. توما.. آمن! غُص أكثر في روحها. جراحها ما زالت مفتوحة. لا بدّ من أن تدركها... فتؤمن.

دلالات

المساهمون