نحن الناس يا أبي

نحن الناس يا أبي

01 نوفمبر 2019
عادت العربات إلى بيروت (العربي الجديد)
+ الخط -
أعادتني ساحتا الشهداء ورياض الصلح، في الأيام السابقة، إلى مشهدٍ لم أعرفه، وظلّ أبي يرسمه لي كلّما جاء في زيارة قصيرة إلى بيروت. هو الذي غادر بيروت حين كان في السابعة عشرة من عمره، ورفض "الصورة" الجديدة التي فُرضت علينا. كان كلّما مرّ في الساحتين، تحسّر على زمن جميل. ليس لأنه ضدّ الحداثة، بل لأنّه رفض التشويه. وظلّ حتى اليوم يدلّني على مكان البسطة التي كان يُساعد والده (أي جدي) فيها أيام الآحاد، وقد أخبرني لاحقاً أنّ ذلك كان مصدر حزن بالنسبة إليه لأنّه لم يستطع مرافقة أصدقائه إلى السينما.

البسطة، وغيرها من البسطات، كانت هناك حين امتلك الشعب الساحتين. وفي كلّ مرة كنت أنزل فيها إلى الساحتين في الأيام السابقة، كنت أحرص على التقاط صورٍ للشعب... لساحة عادت إلى الشعب، من دون أي فرز طبقي، وبثياب لا تحمل ماركات عالمية. سأُهدي الساحتين مجدداً إلى أبي بعدما أصبح جَدّاً اليوم. سأخبره عن نفسٍ شعبي عاد إلى مساحة كان له حيّز فيها على الرغم من الفقر، حين كان وأشقاؤه وشقيقاته الثمانية ينامون في غرفة واحدة.
كان والده يبيع القطنيات للطبقتين الفقيرة والمتوسطة، لأولئك الباحثين عن كسوة. الناس يا أبي يجلسون على الطرقات والأرصفة. يتمشّون ويغنّون. أتذكر عربات الذرة المشوية والفول التي لم نعد نجدها على الكورنيش البحري للمدينة؟ كان يمكنك أن تراها بكثرة في الساحتين. والناس لا يريدون أن يصمتوا. فهم لم يستعيدوا شارعاً بقدر ما استرجعوا حيّزاً عاماً صودر منهم لصالح طبقة معيّنة تنظر إلى الآخرين بفوقية. لكنّ الفقراء والبسطاء هم أصحاب هذه الأرض الحقيقيون.



أعرف أنّك ترى المشاهد من غربتك التي فرضتها عليك الحرب الأهلية. أدرك أنك كنت تودّ الذهاب أكثر إلى صالات السينما بدلاً من أن تضطر إلى العمل في الصحراء حتى قبل إتمامك الثامنة عشرة. اليوم، أراك مجدداً تبيع القطنيات في هذه الساحة. أسمعك تتبادل مع الناس كلمات عفوية وشعبية غير منمّقة. أصحاب البسطات الذين نزلوا إلى الساحتين كانوا يعدّون القهوة ويدعون بعضهم بعضاً لتناولها. انتقمنا جميعاً لتلك الغصّة التي كنت أراها في عينيك كلّما أخبرتني عن سرقة الأغنياء أماكن الفقراء. لا ليس هذا فحسب، بل سرقة الروح وفرض أخرى لا تشبه أرواحنا.

لم أرسل إليك صور الناس البسيطين والجميلين، والعربات التي لطالما أعادت إليّ طفولتي، وذلك الدفء الذي يختفي شيئاً فشيئاً، كلّما صدمتنا الحياة بكمّ من الأحقاد تخبّئه هنا وهناك. لم أرسل إليك الصور خوفاً على صورةٍ قد تصل إليك ناقصة. أراها اليوم أكبر بكثير، رغم كل ما يحدث من حولنا. لو أنّك هنا معنا، سأسمع القصة نفسها مجدداً، لكننا سنبتسم معاً هذه المرة، لأننا استرجعنا بعضاً من حقوقنا، وإن معنوياً. تعال نعيد فتح بسطات لكلّ الناس، ونبيع الجوارب والقلانس. الشتاء على الأبواب والناس لن يغادروا أرضاً سُرقت منهم. تعال... ربّما نعيد إلى بيروت الترامواي الذي كنت تخبرني عنه أيضاً. أما زلت تذكره؟

المساهمون