معرض دوكومنتا: مساحة حرّة وفق مزاج الغرب وإسرائيل

معرض دوكومنتا: مساحة حرّة وفق مزاج الغرب وإسرائيل

22 نوفمبر 2023
في برلين (أود أندرسن/ فرانس برس)
+ الخط -

يُلقي العدوان الإسرائيلي على غزة بظلال كثيفة ومتزايدة على المناخ الثقافي في أوروبا، وعلى ألمانيا على نحو خاص. بات من الواضح أن سعي الحكومات الألمانية المتعاقبة إلى التكفير عن المحرقة النازية، قد وضع الخطاب المؤيد للسياسات العدوانية الإسرائيلية فوق كل اعتبار، حتى وإن كان على حساب الحريات الشخصية والتعبير عن الرأي. وقد أثار هذا الأمر حفيظة العديد من العاملين في المجال الثقافي، ضد ما يرون أنه قمع متزايد وغير مسبوق لحرية التعبير.
يصف الناقد والشاعر الهندي المشارك في عضوية اللجنة المنظمة لتظاهرة دوكومنتا 16 الفنية، رانجيت هوسكوتي، هذه الأجواء بالمسمومة. وكان هوسكوتي قد استقال أخيراً من اللجنة المنظمة لمعرض دوكومنتا 16، على أثر تقرير نُشر في إحدى الصحف الألمانية، عن مشاركته عام 2019، في التوقيع على عريضة تدين مؤتمراً خططت له القنصلية الإسرائيلية في جامعة مومباي. كان هذا المؤتمر يحتفي بالعلاقة بين الحركة الصهيونية والقومية الهندوسية. وقد ربطت هذه العريضة التي وقع عليها هوسكوتي بين الصهيونية والعنصرية.
بعد نشر هذا التقرير، هددت وزيرة الثقافة الألمانية كلوديا روث بسحب التمويل من دوكومنتا 16، كما طلبت إدارة المعرض من هوسكوتي، أن يعلن نأيه عن هذه العريضة. غير أن هوسكوتي اختار الاستقالة، معرباً عن دهشته من محاسبته على آرائه الشخصية. ذكر الناقد الهندي في بيان استقالته، أنه لا يوجد مجال في مثل هذه الأجواء السامة لإجراء نقاش حقيقي وموضوعي. أعرب هوسكوتي أيضاً عن خشيته من أن مثل هذه الأجواء التي لا تسمح بطرح الآراء المغايرة، قد تُبطل طبيعة هذا المعرض العريق كمساحة حرة للتجريب والتعبير بحرية عن وجهات النظر المختلفة. أضاف هوسكوتي: "لقد طُلب مني قبول تعريف شامل وغير مقبول لمعاداة السامية، وهو تعريف يخلط بين الشعب اليهودي ودولة إسرائيل، ويفسر أي تعبير عن التعاطف مع الشعب الفلسطيني باعتباره دعماً للعنف".
جاءت استقالة الناقد الهندي بعد أيام قليلة من استقالة زميلته في اللجنة، الفنانة والناقدة الإسرائيلية براخا ليختنبرغ إتينغر، بسبب "حزنها"، كما تقول، على الوضع في الشرق الأوسط، واعتراضاً كذلك على تجاهل طلبها بتجميد عمل اللجنة مؤقتاً.
ضمت اللجنة المكلفة بوضع تصور لـ"دوكومنتا 16"، ستة أعضاء، وهي الدورة المقرر تنظيمها في 2027. وباستقالة عضوين منها، وجد الأعضاء الأربعة الآخرين أنفسهم أمام حرج شديد. كان على هؤلاء الأعضاء الاختيار بين تجميد عمل اللجنة مؤقتاً إلى حين انتهاء الأزمة، أو الاستمرار وفقاً لهذه التعقيدات، لكنهم اختاروا في نهاية المطاف عدم الاستمرار بتقديم استقالتهم الجماعية.
يقام معرض دوكومنتا كل خمس سنوات في مدينة كاسل الألمانية، وهو أحد أهم الأحداث الدولية في مجال الفن المعاصر، ويحظى بالمكانة المرموقة نفسها التي يحظى بها بينالي البندقية. نظمت الدورة الأولى من هذا الحدث المهم في عام 1955 في ألمانيا الغربية، رداً على المعرض الذي نظمه النازيون في ميونخ عام 1937 تحت عنوان "الفن المنحط"، وهي العبارة التي كان يصف بها هتلر الأعمال الحداثية والتجريبية حينئذ.
حرص منظمو "دوكومنتا" منذ البداية على أن يكون هذا المعرض منفتحاً على مختلف الأطياف الفنية والتجارب الجديدة، وأن يتيح الفرصة للفنانين من كافة أنحاء العالم للتعبير عن وجهات نظرهم ورؤيتهم بحرية تامة. هذه المبادئ التي حكمت دورات "دوكومنتا" منذ إنشائها، صارت اليوم محل شك، هذا ما عبر عنه أعضاء اللجنة الأربعة الموقعون على الاستقالة الجماعية، التي تم الإعلان عنها يوم الخميس الماضي. الأعضاء الأربعة هم غونغ يان وسيمون نجامي وكاثرين رومبيرغ وماريا إينيس.
حذر هؤلاء الأعضاء في بيان الاستقالة من خطر إساءة استخدام قوانين معاداة السامية، من أجل قمع الآراء غير المرغوب فيها، وتغليب الأحكام المسبقة والتهم الجاهزة لكل رأي مخالف. كما أعرب الموقعون على البيان، عن استنكارهم للطريقة التي عومل بها زميلهم رانجيت هوسكوتي، ودفعه للاستقالة على هذا النحو، بل وتشويه سمعته. أعرب الموقعون أيضاً عن صعوبة تنظيم معرض قوي ومميز في ظل هذا المناخ السياسي غير المناسب، وتقلص المساحة المتاحة للنقاش وتبادل الأفكار. اعتبر أعضاء اللجنة، أن بقاءهم في ظل هذه الأوضاع، يُعد إهانة للمفاهيم والمبادئ التي أُسس عليها "دوكومنتا".
أحاطت هذه الاستقالات بظلال من الشك حول إمكانية تنظيم الدورة المقبلة من "دوكومنتا" في موعدها المحدد.
واكتفى البيان الصادر عن إدارة المؤسسة، بتقديم الشكر لجميع أعضاء اللجنة، من دون ذكر أي موعد لتشكيل لجنة أخرى. تُفاقم هذه الأزمة التي تعرّضت لها تظاهرة دوكومنتا من الانتقادات التي وجهت لهذا الحدث خلال الدورات القليلة الماضية، وخاصة خلال الدورة الأخيرة. كانت الدورة الأخيرة من "دوكومنتا" التي نظمت العام الماضي، قد شهدت إجراءات غير مسبوقة ضد عدد من الأعمال الفنية المشاركة، استناداً إلى الحجة نفسها، وهي معاداة السامية. في تلك الدورة، أزيل عمل جداري لمجموعة من الفنانين من إندونيسيا، ومنع عمل آخر للفنان الفلسطيني محمد الحواجري من العرض بحجة تضمين هذه الأعمال لإشارات معادية للسامية. وقد شهدت تلك الدورة انتقادات وتوترات غير مسبوقة، إذ استقال المدير العام للمعرض، واستُدعيت إدارة "دوكومنتا" للإدلاء بشهادة أعضائها أمام البرلمان الألماني.

هذه الأزمة التي شهدها معرض دوكومنتا، هي مجرد مثال واحد على التوترات التي تشهدها الساحة الثقافية في أوروبا منذ عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ودعم الحكومة الألمانية غير المحدود له. أججت من هذه التوترات أجواء الرقابة والاستقطاب والجدل والمواقف الحادة التي اتخذتها بعض المؤسسات الثقافية والمساحات الفنية المؤيدة لإسرائيل.

منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، ألغت مؤسسات فنية معارض لفنانين بارزين أبدوا تعاطفهم مع الفلسطينيين على صفحاتهم الشخصية. بين هؤلاء الفنانين، يأتي الفنان الصيني الشهير أي ويوي، الذي ألغيت له ثلاثة معارض كان مقرراً تنظيمها حتى عام 2024 في قاعات عرض مختلفة في باريس ونيويورك وبرلين، بسبب منشوراته المنددة بالعدوان على غزة. كما اعتذر متحف فولكوانغ في ألمانيا عن تنظيم المعرض الجماعي "نحن المستقبل"، قبل ساعات من موعد الافتتاح. وقد جاء هذا الإلغاء بسبب منشورات إحدى الفنانات المتعاطفة مع الفلسطينيين، في حسابها على "إنستغرام".

المساهمون