نظام جديد: قضاء سينمائيّ على الأمل

نظام جديد: قضاء سينمائيّ على الأمل

21 سبتمبر 2021
ميشال فرنكو ودييغو بونيتا في مهرجان البندقية العام الماضي (فرانكو أرويغليا/Getty)
+ الخط -

هل هو فيلم ضد الثورات؟ "نظام جديد" (2020)، للمكسيكي ميشال فرنكو، مُتشائم وقاسٍ، عن عالمٍ قاتم ووحشيّ، لا خلاص فيه لأحد، لا بثورة ولا بغيرها. الفيلم ـ المُشارك في الدورة الرابعة (1 ـ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان بروكسل السينمائي الدولي"، والفائز بجائزة لجنة تحكيم الدورة السبعين (2 ـ 12 سبتمبر 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ يُثير مشاعر خوف، بل رهبة، من حاضر مروّع تعيشه البشرية، ومصير أشدّ ترويعاً، تهرع إليه بدرايةٍ أو من دونها. نوعٌ من الأفلام "لا يُعجب (أحداً)"، على حدّ تعبير المخرج نفسه، في تقديم فيلمه هذا في المهرجان البلجيكي. فالإعجاب ليس الوصف المناسب لفيلمٍ على هذا القدر من التشاؤم؛ وما ينطبق عليه أكثر ربما إثارته الاهتمام.

في فيلمه السادس، اختار فرنكو زمناً مقبلاً (لا محالة؟)، وإن كان حاضراً ينسحب على أماكن عدّة في هذا العالم البائس، حيث يتزايد ضحايا عدم المساواة الاجتماعية. ها هم في مكسيكو يثورون وينتقمون، ويقتحمون حفلَ زواجٍ باذخاً، فتقع مذابح وسرقات. يُستهلّ الفيلم بمشاهد من العرس، في بيت أهل العروس الأثرياء، بحضور كبار الشخصيات المرتشية والراشية من رجال أعمال ووجهاء وسياسيين وعسكريين. سيارات فخمة، وثياب غالية الثمن، ومجوهرات لامعة. جوّ فرحة الأهل يتعكّر مع الوصول المفاجئ لرولاندو (إليثيو مِلِندِز)، الخادم السابق، طالباً مُساعدة فورية لنقل زوجته إلى المشفى. مجيئه ومغادرته يائساً بعد حصوله على قليلٍ لا يكفي، شكّلا مبرّراً درامياً ذكياً وقوياً لدفع العروس إلى اللحاق به إلى بيته. ماريان (نَيان غونزاليس نورفيند)، حاولت ما بوسعها لإعطائه كلّ ما طلب. رقيقة، تحبّ زوجته التي كانت تعتني بها في صغرها. لكن الأوان فات، وغادر رولاندو قبل وصولها.

في إيقاع سريع، وحبكة متينة، يُعرّف "نظام جديد" بدقّة مكثّفة، وبشكلٍ غير مباشر، بالشخصيات، عبر محادثات قصيرة بينها، لا تتجاوز عبارة واحدة أو عبارتين، كالتعريف مثلاً بأهل ماريان، وبعض الخدم، ورئيس المخابرات شديد النفوذ، والمرتشي من والد العروس الثري. تتنقّل الكاميرا بين الحضور، وتتوقّف عند أطرافٍ من أحاديثهم، تدلّ عليهم. تتبدّى أجواء هذا النوع من الأشخاص والاحتفالات. أجواء تتعكّر، على نحو أخطر، بعد دقائق، مع إشارات عن طارئ في الشوارع، حيث الناس غاضبون، يُقيمون الحواجز، ويرمون الأغنياء وسياراتهم بالدهان الأخضر. رغم هذا، تُقرِّر ماريان ـ المغتاظة من موقف أسرتها إزاء الخادم ـ اللحاق به، لإعطائه فلوس النقوط. تطلب من كريستيان (فرناندو كواتليه)، الخادم لدى الأسرة، اصطحابها بالسيارة لتلحق برولاندو، متحدّية الجميع، وما يجري في الخارج، وتاركة بيتها قبل تسلّل الثوار إليه.

يلعب ميشال فرنكو باستمرار على مخالفة توقّعات مُشاهده ومباغتته، بالحوار أو بالحدث. هذا الذي يتنفس الصعداء لنجاة ماريان من فظائع الثوار ووحشيتهم، عند اقتحام المنزل، ينتهي به الأمر في تمنّيات أخرى. ما سيشهده على أيدٍ أكثر دراية وخبثاً ودهاءً، سيكون أرهب. تلك الثورة التي أشعلت الطرقات، وبدأ فيها النهب والقتل، أيقظت بعد انتظار متعمّد "مشاعر" الجيش أخيراً.

يلعب ميشال فرنكو باستمرار على مخالفة توقّعات مُشاهده ومباغتته، بالحوار أو بالحدث

تطرأ تحوّلات في مسيرة السرد، فيختفي الثوار، ويحلّ العسكر محلهم. يتابع الفيلم على نحو محكم إظهار خفايا أوضاع كتلك، وما ينشأ فيها من تحالفات، ومجموعات عدّة في الجيش تستغلّ الحدث، وتزيد في تعقيد الوضع، وتنشر المزيد من الفوضى والعدم. يبدي بذكاء لعب الكبار واحتيالهم واستغلالهم "البديع" لما يجري، لتصبّ الأمور في النهاية في مصلحتهم بالكامل.
لا يدع "نظام جديد" أيّ مساحة، ولو ضيئلة، للأمل، بل يقضي عليه كلّياً، وبكلّ عنف وبرود؛ كالعنف الذي يسود الحياة، والظلم وعدم العدالة، حيث لا نجاة للطيّبين، الذين يدفعون الثمن الأغلى، ويذهبون سحقاً تحت أقدام الأطراف كلّها. لم ينحزْ فرنكو إلى أحدٍ من شخصياته، ولم يتعاطف تماماً مع أيّ منها. ربما قليلاً مع ماريان وكريستيان ومارتا والدته، وربما أيضاً مع رولاندو. 

سينما ودراما
التحديثات الحية

تعامل بيأسٍ محتّم مع الجميع. رسم لوحة بالأبيض والأسود (البيض أغنياء ونافذون، والملوّنون الأهل الأصليون للبلد)، لطّخها بالأخضر (لون الثوار)، والأحمر(الدم)، ألوان العلم المكسيكي. أظهر طيّبين، ككريستيان وأمه، وهما من هؤلاء الفقراء الراضين عن عملهم، والمجدّين والمخلصين لأرباب العمل، يعملون بصمتٍ وقبول، من دون إحساس بالدونية أو الحقد على مستخدميهم، بينما آخرون حاقدون على الغني، كبعض الخدم والثوار. في الطرف المقابل، بيّن أنّ هؤلاء الأغنياء كان يُمكنهم إنقاذ رولاندو بتضحيات بسيطة، أما العسكر والحكّام، فجميعهم قذرون ومرتشون.

ميشال فرنكو غير مؤمن بالتغيير. قال إنّه خلع قميص تشي غيفارا وهو في الخامسة عشرة من العمر (ردّاً على سؤال مُشاهِدٍ كان يلبس القميص)، حين أدرك أنّ "الأشياء لن تتغيّر لا مع زاباتا (الثائر المكسيكي، 1879 ـ 1919)، ولا مع أفلامي"، كما قال ساخراً في حوارٍ مع الجمهور، وفي دردشة قصيرة مع "العربي الجديد". اعتبر أنّ لديه الشجاعة على الأقلّ للاعتراف بذلك، لسوء الحظ. برأيه، لا أحد يعمل شيئاً للتغيير: "أريد أنْ يكون هناك تغيير، وألّا يوجد العنف. لكنْ، ليس لديّ أمل في البشرية، لا في المكسيك، ولا في العالم. قلبي مُحطّمٌ لهذا".

لا يدع "نظام جديد" أيّ مساحة ولو ضيئلة للأمل، بل يقضي عليه كلّياً وبكلّ عنف وبرود؛ كالعنف الذي يسود الحياة والظلم وعدم العدالة، حيث لا نجاة للطيّبين الذين يدفعون الثمن الأغلى

في تعليق على نظرته المتشائمة للثورات، كأنّه يردع الناس عن القيام بها، قال إنّ الثورة تُمجَّد دائماً، لكنّه قاربها من وجهات نظر عدّة، وإنّ "نظام جديد" مجرّد طريقة لسرد ما يحدث، وللقول إنّ الطبقات المرفَّهة يُمكنها، بتضحيات قليلة، أنْ تُغيّر شيئاً، وأنْ تحصل على حياة أفضل: "لكنّ الناس لا يميلون إلى التغيير. إنّهم مرتاحون مع الثبات".

النتيجة، كما يراها، أنّ كلّ شيءٍ يجب أنْ يتغير، لتبقى الأشياء على حالها: "لا أمل أبداً. هذه ليست غلطتي، بل غلطة العالم. حين تشاهد الحياة اليومية، تتساءل: كيف سيتغيّر هذا؟".

ردة الفعل في المكسيك على الفيلم متوقّعة. هناك شعورٌ بعدم الرضى، لأنّه صدم الناس، لا سيما في إشاراته الرمزية للعلم المكسيكي. ميشال فرنكو يبرّر هذا بالقول إنّه أظهر الواقع، و"تباً لهم. هذه هي الحقيقة". فهو سعى إلى تمثيل كلّ جهة بشخصيات عدّة، وبيّن أنّ كريستيان وأمه مخلصان، إلى درجة مؤلمة، وهذا قضى عليهما. لكنّ الناس اعترضوا: لِمَ كلّ ما هو خيّر وجيد يُقضى عليه في النهاية؟ كانوا يسألونه. "لكنْ، تباً (مرة أخرى). يكفي أنْ تنظروا لتروا كلّ هذا حولكم"، يُجيبهم.

المساهمون