"نوتشا" لفلاديمير مونكيف: استلاب روسيّ

"نوتشا" لفلاديمير مونكيف: استلاب روسيّ

20 سبتمبر 2021
"نوتشا": انتقال سينمائي للغضب من الشاشة إلى المُشاهد (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يدرس السينمائي الروسي فلاديمير مونكيف (1987)، في "نوتشا" (2021)، حالة إقليم ياقوتيا السيبيريّ، بداية القرن الـ 19، في سياق تاريخي وميثولوجي، مرتكزاً على قصّة قصيرة للباحث الأنثروبولوجي البولندي فاسلاف سيروسيفسكي، المختصّ بدراسة قبائل "ياكوت" الروسية. لا يتطلّب فهم نصّه السينمائي (السيناريو والإخراج أيضاً)، ومكنوناته الدرامية، اطّلاعاً مُسبقاً على النصّ القصصي، لأنّه ـ في الأحوال كافة ـ يؤسّس نصّه وفق رؤية خاصة، كُتبت بصيغة حبكة سينمائية، يُعيد عبرها النظر في العلاقة التاريخية بين المركز الروسي والأطراف التابعة له، ومبعث ظهور "تبعية" قومية، تتجاوز فكرة الهيمنة السياسية بكثير.

هذا المسعى إلى فهم العلاقات التاريخية، والصراعات الممهِّدة لبروز مراكز قوى سياسية، تتكرّس بمرور الوقت، جرّبه مارتن سكورسيزي في "عصابات نيويورك" (2002)، واشتغلت عليه كيلي رايكارد في "بقرة أولى" (2019). الأول بحث في مصادر العنف، وتاريخ سيطرة رجال عصابات على مراكز مدنية ناشئة، للإيرلنديين فيها نصيبٌ سياسي كبير. الثاني ذهب أبعد تاريخياً، في صوغ العلاقات الاقتصادية الرأسمالية الناشئة على أرض جديدة، يُرمَز إليها درامياً بـ"بقرة" ولصوص يريدون سرقة حليبها. في المشهدين السينمائيين، البحث في الأصول الأنثربولوجية والمثيولوجية للتكوين الأميركي قليل، على عكس "نوتشا" ـ الفائز بجائزة أفضل فيلم، في مسابقة "شرق الغرب"، في الدورة الـ 55 (20 ـ 28 أغسطس/ آب 2021) لـ "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي" ـ المشبع بها، وباستعارات (ميتافورا) تقرّبها من جذورها الروسية.

من دفن الفلاح خابتزي (بافيل كولَسوف) وزوجته كيريميس (إيرينا ميخائيلوفا) طفلهما الثاني، وتوديعهما له بصمتٍ ثقيل، يدخل فلاديمير مونكيف إلى أطراف قرية صغيرة، في منطقة "ياقوتيا" السيبيرية، ويترك تفاصيل عيشهما، مقترباً ببطء من التفاصيل اليومية. صيف سيبيريا بخيل عليهما. تعلّما التكيُّف معه، والبقاء طويلاً على حافة الجوع. الأسماك شحيحة في النهر. شِباك الصيد فارغة، وإطلاقات البندقية لا تصيب طريدة.

المَشاهد اليومية توحي بتكلّس مشاعر وقسوة. لكنّ صرخة الزوج الملتاع، عند دخوله الكوخ ورؤية زوجته معلّقة بحبل، تكسر ذلك الانطباع، وتحيله إلى سؤال يظلّ معلّقاً طويلاً، بانتظار زمن آخر، ربما يقدر الإجابة عنه. في الانتظار، يصل ساحر القرية، ويمارس طقوسه بحثاً عن الشيطان الشرير، الذي يجوِّع الفلاحين، ويُميت أطفالهم. بمجيئه، يفسح "نوتشا" المجال واسعاً للدخول إلى عالم قبائل "ياقوتيا" من بوّابة تقاليد وأعراف، تُحيل طقوسها إلى جذورها، وانتسابها إلى ثقافات بدائية طوطمية، لا تزال لها مكانة في حياة سكان الأقاليم البعيدة، بينما روسيا المركز تستعد للانتقال من عصر الإقطاع والنبلاء إلى مراحل جديدة من العلاقات الاقتصادية والسياسية.

 

 

بصفقة خاسرة مع سيّده من أبناء جلدته، يضيف الفلاح فماً جائعاً آخر إلى كوخه. توسّلاته لزعيم القرية بمساعدةٍ، تعُينه على قضاء الصيف الشحيح، جلبت له سجيناً روسياً، جاءت به قوات القوقاز الروسية ليقيم فيها. القرية اعتادت وصول المنفيين المعارضين للقيصر إليها، في مقابل حماية ودعم مالي روسي، يقدّمونه لخدّامهم من رؤساء القبائل. صرخة والدة الزعيم، الغاضبة من قبول ابنها علاقة مختلة، تلخّص الحال: "لقد تحوّلنا إلى سجن روسي". "السجن الروسي" يتجسّد سينمائياً باشتغالات مذهلة، تميل إلى الغوص عميقاً في دواخل الشخصيات ملتبسة المشاعر، الشاغلة مشهداً واسعاً، تقلّصت حدوده في مثلث علاقات بشرية، تتحرّك وتتفاعل عناصره وفق رؤية إخراجية تعي بوضوح جذور السيطرة، وآليات تكريسها كسلوك معزّز لتكوين الأمة الروسية القيصرية، وما تلاها.

بدخول السجين كوستا (سيرغي غيليف) إلى كوخهما، تنقلب حياة الزوجين، ومعه المسار الدرامي للفيلم. يتخطّى سرده ثقل الإحساس الطاغي بالعزلة والعوز والجهل، والمنقول كلّه في مشاهد كلاسيكية رائعة، صوّرها دينس كليبليف، وجمعها توليف بارع (إيفان ليبيديف) ومتنبِّه إلى شدّة الأواصر الرابطة بين الطبيعة القاسية والفرد المُتأذي منها، وإلى ما تثيره من توترات نفسية داخلية، تعكس قلقاً وريبة، يشيّعها وجود كائن غريب بارد متعجرف، يُعادي الوسط المنقول إليه.

يستثمر النصّ وجوده لتجسيد ونقل العلاقة المختلة بين المركز والطرف البعيد. المرأة تخاف موته، وترى في ضعفه اختلافاً عن تصوّر مسبق للروسي الذي يطلقون عليه في لغتهم تسمية "نوتشا" (عنوان الفيلم). "الروسي" القوي، الأبيض الطويل، ذو العينين الزرقاوين والهيئة الباذخة. صورة معكوسة من مرآة مخيال شعبي تربّى على الخنوع للأقوى. يعرف السجين ذلك، ويتصرّف وفقاً له. الزوج يحمل خشيته منه في غيابه عن زوجته، والإحساس بوجود علاقة ما بين المرأة والغريب يسرّبها، بإزعاج، سينمائيّ موهوب يعرف كيف يجمع الدرامي ـ الحدث بالنفسي الهلامي العائم في الفضاء.

الزمن البطيء يُنضِج مخاوف الزوج وغيرته، ويحوّلهما إلى غضبٍ يضعه بين فكّي سلطتين: زعيم القرية، والروسي المُتجبّر بقوميته. مشهد اغتصاب السجين للزوجة يُنهي غموضاً طال زمنه، ومعه يُرفِق احتجاجاً غامضاً عليه. مشهد انتحار الزوج، مُعلّقاً على شجرة، تورية عن عجز وقهر. إغلاق المرأة باب كوخها وراءها، بوجود السجين فيه، إعلان فظّ عن حالة استلاب. "نوتشا" لا ينتهي عند هذا الإعلان الصارخ، بل ينقل غضبه منه إلى مُشاهِده، ويُبقيه عالقاً فيه طويلاً.

المساهمون