"ما فوق الضريح": الموت مجازاً إلى حياة أرحب

"ما فوق الضريح": الموت مجازاً إلى حياة أرحب

15 مارس 2024
"ما فوق الضريح": علاقة مرتبكة تُعِين على فهم الحياة (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في "ما فوق الضريح"، يتعاون المخرج الجزائري كريم بن صالح والكاتب جمال بلماحي لاستكشاف التنوع الثقافي والديني في فرنسا من خلال قصة سفيان، الذي يعيش تجربة ثقافية متنوعة.
- سفيان، بدور حمزة مزياني، يواجه تحديات تدفعه للعمل في دفن الموتى المسلمين، مما يجبره على مواجهة تناقضات بين ثقافته الكونية والتقاليد الإسلامية، ويتعلم احترامها.
- الفيلم يفوز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان البحر الأحمر، مؤكدًا على قوة السينما في بناء جسور التفاهم بين الثقافات والديانات، ويبرز موهبة حمزة مزياني التمثيلية.

 

يُقْدِم المخرج الجزائري كريم بن صالح، مع زميله في كتابة السيناريو جمال بلماحي، على مغامرة سينمائية، بخوضهما موضوعاً شائكاً، له صلة بالأديان وتعدّد الثقافات واختلافها في فرنسا، من منظور مُركّب، الفرد محوره. منه، يُمكن رؤية المشهد الاجتماعي الأوسع، المُتشكِّل من تشابكات وتعقيدات، يكون الفرد، في النهاية، الفاعل الأنشط فيه.

والنصّ السينمائي، إذا أُحسِن التعبير عن تكويناته الوجودية وتعقيداته النفسية، يُثير تأمّلاً وتفكيراً في الوضع البشري الملتبس، الذي تخيّلاه لبطل فيلمهما "ما فوق الضريح" (2023، إنتاج جزائري فرنسي). على هذا أنْ يتعايش معه ككائن ـ فرد، يبحث عن معناه، في وَسَطٍ لن ينفكّ عن الالتصاق به، رغم فرادة تكوينه الكوزموبوليتاني، المُتأتّي من عيش طفولة موزّعة في بلدان كثيرة، بسبب العمل الديبلوماسي لوالده، وتحدّثه لغاتٍ عدّة، تُشعره بالانتماء إلى لا مكان، بل إلى نفسه فقط، لا إلى أحد غيره، أو إلى بلدٍ مُعيّن.

المشهد الاستهلالي ـ المُراد به عرض ملامح عامة لشخصية البطل الشاب سُفيان (الموهوب حمزة مزياني)، لحظة ظهوره الأول بين شباب فرنسيين في مدينة "ليون" ـ يُلبّي الغرض منه، ويُظهره كما هو: شابٌ عابثٌ بالحياة، وميّالٌ إلى اللهو والتباهي بثقافته الكونية، مُقدِّماً نفسه أميركياً فرنسياً إيطالياً فنزويلياً سنغالياً جزائرياً. لا يشير إلى البلد الأخير كموطن أصلي له، انحدر منه. هذا يثير حفيظة غيره من الشباب الجزائريين، الفخورين بوطنيّتهم وقوميّتهم العربية، ويترك بينهم وبينه فراغاً، يتّسع في المشهد الذي يليه مباشرة.

لفشله في الاستمرار في دراسته، يُهَدَّد بالطرد من فرنسا. لتجنّب ذلك، عليه البحث سريعاً عن عملٍ، يُبرِّر به وجوده فيها. المدة الممنوحة له قصيرة، لا تتجاوز شهراً واحداً. مرشدته في الجامعة تنصحه بالبحث عن عمل خاص، لا يتنافس عليه العمّال الفرنسيون. يتوسّط له والده مع قريبٍ، لديه مكتب لدفن الموتى المسلمين. لا خيار أمامه سوى القبول به، أملاً منه في الحصول على عقد عمل رسمي يُمدّد به إقامته.

يورّط النصّ بطلَه في عمل غريب، يُقرّبه من عالم الأموات، هو الذي يعيش حياة شبابية صاخبة، تُبعده عن التفكير بالموت، وحتميّته. منذ لحظة تعرّفه على "الحاج" (الجزائري عبد القادر أفاك)، المسؤول عن ترتيب مراسم غسل الموتى، والتحضير لدفنهم بحسب التقاليد الإسلامية، يظهر التناقض الجليّ بين ثقافتين وشخصيتين: الأولى حياتية، تنفر من الموت، ولا تطيق فكرة حتميته، والثانية تتعامل معه كحقيقة وجودية، لا بُدّ من القبول بها، وبما تفرضه من احترامٍ كبير للميت وجسده.

 

 

لن يتهاون "الحاج" مع أي خرق لأعراف وتقاليد عملٍ، لها صلة بالديانة التي ينتمي إليها، وبطقوس تعاملها مع من يغادر الدنيا إلى الآخرة. المكان المقترح للجمع بينهما يفرض حضوراً دائماً للموت، يترك وَجَلاً في نَفْسِ مَنْ يتابعه على الشاشة، التي تفيض بمشاهد تعرض تفاصيل التعامل مع الجثث، المُعتنى بالإعداد لرحيلها إلى عالم الآخرة. بدلاً من الاستجابة إلى رغبات خفية عند المُشاهد، لاختصارها، يتعمّد كريم بن صالح، ويُكرّس مهاراته الإخراجية كلّها، إظهار العلاقة الخاصة بين جسد المسلم المُسجّى، والمُعتني بغسله وتسليمه إلى خالقه طاهراً نظيفاً.

إلى هذا الجوّ، المشبع بطهرانية روحانية، يدخل سفيان صدفة. ما يبدو في البدء مُثيراً للنفور في ثقافته الكونية، يغدو بسرعة دافعاً إلى الإعجاب بانفتاح، فيها (الثقافة الكونية) تُجَسّر الخلافات، وتُجمع التناقضات من المواقف. تأثّره بأسلوب عمل رجل غريب الأطوار وغامض، كلّما تقرّب منه تعمّد الابتعاد عنه، كأنّه لا يريد أيّ صلة له بعالم الأحياء، يضحى (التأثّر) مدخلاً إلى الاقتراب من جوانيات "الحاج"، واكتشاف جوانب رائعة فيه، يتستّر عليها سلوكه الخارجي، ولا يشي بها.

من دون إقحامٍ فظّ، يُترَك للسينما أخذ دورها البارع في نسج صلات إنسانية جديدة، بين أطرافٍ متباعدة في موروثاتها الدينية. لكنْ، هناك مشتركات إنسانية أخرى، يُمكن بما لديها (السينما) من سحرٍ أنْ تُقدّمها بسلاسةٍ تثير إعجاباً بها وبقدرتها على خلق عوالم متخيّلة. لم يألف المُشاهِد العربي خاصة حضورها على الشاشة، بهذا القدر من التفرّد والتدقيق. قدرة السينما على تحويل ما كان في البدء مُنفِّراً، لشدّة غرابته، ومُستهجَناً، إلى فعل سوي، يفتح مساراً درامياً لافتاً في تصاعده وانفتاحه على آفاق جديدة، تقبل الجمع بين الديانات والثقافات.

انفتاح سفيان، بحكم تكوينه المُركّب من ثقافاتٍ عاش وسطها، ساعده على حَلّ عقدٍ كثيرة واجهها في عمله. بفضلها، يجمع بين احترامه تقاليد إسلامية، وأخرى تتفاعل وتتشابك معها في المكان نفسه.

من بين مراسم دفن الموتى، تظهر مساحات وممرّات للتفاهم والقبول بالآخر وتقاليده. هذا يعجّل بحصوله على عمل ثابت، يتيح له مراجعة علاقاته بعائلته ووالده الدبلوماسي المتقاعد، الذي ظلّ زمناً طويلاً بعيداً عنه، لا يفهمه، ولا يتقبّل فتور تعامله مع موت والدته. يُدرك أنّ عمله الجديد يُعينه على فهم نفسه، وبدلاً من جعلها مركزاً وحيداً للعالم، يقبل بدخول آخرين عليها، يتفاعلون معها، ويشاركونها الأفكار والمواقف.

نصّ "ما فوق الضريح" مُدهش، يستحقّ فوزه بحائزة أفضل سيناريو، في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثالثة (30 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 9 ديسمبر/ كانون الأول 2023) لـ"مهرجان البحر الأحمر". فيه تبرز موهبة تمثيلية واعدة، يرفع بها صاحبها حمزة مزياني نصّاً مُركّباً، كالشخصية التي يؤدّيها، والتي لا يُمكن تجسيدها سينمائياً إلا لِمَنْ توفّرت عنده موهبة التمثيل العجيبة.

المساهمون