"فرحة": النكبة من داخل بيت المونة وخارجه

"فرحة": النكبة من داخل بيت المونة وخارجه

13 ديسمبر 2022
"فرحة" (كرم طاهر) هي مراهقة تؤرّخ بصرياً الجريمة الإسرائيلية (الملف الصحافي)
+ الخط -

ساعات قليلة بين بثّ "فرحة" (2021)، للأردنية دارين ج. سلاّم، على شاشة المنصّة الأميركية نتفليكس، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة تحديد يوم 15 مايو/أيار 2023 لإحياء الذكرى الـ75 للنكبة (1948).

تعرّض الحدثان معاً لحملة تشنيع صهيونية: الفيلم، لأنّه "يُشوّه صورة الجندي الإسرائيلي"، في تغريدة أفيغدور ليبرمان، وزير المالية في الحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايتها؛ وأغلبية الجمعية العامة، لأنّها تسمح بـ"قبول أكاذيب الفلسطينيين على المسرح العالمي"، بصوت جلعاد إردان، سفير الاحتلال لدى الأمم المتحدة.

اختير "فرحة" للمشاركة باسم الأردن في التصفيات الأولى لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي (تُعلن النتائج النهائية للنسخة الـ95 للجوائز كلّها في 12 مارس/آذار 2023)، وبدأ عرضه على "نتفليكس" في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2022، وفيه مجزرة الضحايا الفلسطينيين ممن لم يسعفهم الحظّ في الهرب من أحكام الإعدام الميدانية.

تروي دارين ج. سلّام حكاية الفتاة فرحة، ابنة مختار قرية فلسطينية، استباحتها العصابات الصهيونية، ما دفع الأب كامل الجلمود، في لحظة يأس، إلى إدخالها إلى بيت المونة، بوصفه مكاناً آمناً، مُحكماً إغلاق بابه بالقفل الحديد، ومُغلقاً ما أمكن من الشقوق بالطين، طالباً من فرحة الذاهلة أنْ تنتظره ريثما يعود.

92 دقيقة تدور في بيت المونة. ومن خلال ما تُفسحه شقوق الباب الخشب، المُطلّ على الحوش، ترى فرحة السجينة إعدام عائلة مؤلّفة من أبٍ وزوجة وأطفال، بينهم رضيعٌ تُرك مرميّاً على الأرض، لأنّه أرخص من أنْ تُطلق عليه رصاصة، كما يقول الضابط الذي يملي الأوامر.

منذ عرضه الأول في قسم "اكتشافات"، في الدورة الـ46 (9 ـ 18 سبتمبر/ أيلول 2021) لمهرجان تورنتو السينمائي الدولي، ثم في أوروبا، تتحدّث دارين ج. سلّام عن القصّة الإنسانية التي أثّرت في الجمهور، بعيداً عن أي أجندات سياسية. وتحت ضغط اللوبيات الصهيونية، يُمكن تفهّم العربي، ومنه الفلسطيني دائماً، والمسلم، في تمرير روايته من جانب إنساني، كأنّه يقول للغربيّ: هأنذا إنسان كما تنصّ دساتيركم الرفيعة، ومُنتهَك على قياسات "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي".

لكنّ الحقيقة سياسية، وما من أحد يفصح عن ذلك أكثر من دولة الاحتلال التي ليس لها أي مانع في عرض فيلمٍ يتناول تنمّر يهودي أوكراني على جاره العربي الفلسطيني، فيذهبان معاً إلى الشرطة، أو بمعطيات الفيلم، أنْ تَمنع الحربُ وصول فرحة من قريتها حيث لا "مدرسة بنات"، إلى المدينة. حُرمت الفتاة من مواصلة العلم، لتبقى حبيسة الكتّاب، حيث الشيخ لا يُدرّس الفتيات غير القرآن، وحيث ابن العم جاهز للزواج بها، هي التي تبلغ 14 عاماً، وإذا بلغت 18 عاماً ستدخل حتماً مرحلة العنوسة.

الحقيقة ما شاهدته فرحة السجينة، من مقتطف واحد وقع في مأساة فلسطين، ونتج منها اقتلاع ثلثي الشعب من أرضه، ونشوء دولة الاحتلال. هذه القصّة عالجتها سلاّم بحساسية موهوبة، وأداء ممتاز من جميع الممثلين، ومنهم الشخصية الرئيسية فرحة، التي أدّت دورها كرم طاهر، في أول تجربة تمثيل لها.

لو أنّ الفتاة رضيّة (فرحة في الفيلم)، صاحبة القصّة المؤلمة يوم النكبة، على قيد الحياة، لبلغت التسعين من عمرها. خرجت أخيراً من الغرفة التي حُبست فيها أياماً طويلة، لتجد القرية موحشة، لا صوت فيها سوى الطبيعة الخالية من لغة البشر، وتمشي في طريق طويلة نحو سورية، وتعيش فيها وتروي حكايتها، وتبكي أباها الذي التحق بالرجال القادرين على حمل السلاح، ووعدها أنْ يعود ولم يعد.

لكم تبدو الفنون تشبه الواقع حرفياً، بالقدر الذي تحاول فيه الخروج عنه، أمام امتحان صعب. جعلتنا "فرحة" نتخيّل كل متر مربع دارت فيه رضيّة، ونتخيل طولَ الطريق التي قطعتها فتاة من قرية لا نعرف اسمها إلى سورية، بلا قبر لأبيها تزوره.

أفلح ممثلون مشهورون في أنْ يكونوا مساندين للدور الرئيسي للفتاة. تركوها جميعاً لتكون في عتمة الغرفة بلا ماء، مع صدفة أنْ تكون الغرفة "بيت المونة"، وفيها جبنة وزيتون وضُمّتا بامية وثوم مجفّفتان ومُعلّقتان على الجدار، وقرع وبطاطا، ومصباح كاز.

هذه تفاصيل قرية فلسطينية تشبه تفاصيل قرية أردنية، حيث اختيرت مواقع التصوير في عجلون والفحيص. وفي شهر أنجز التصوير، وكان واضحاً أنّ الممثلين حفظوا أدوارهم، انتماءً إلى فائدة الفكرة النبيلة وجوْدتها فنياً.

الدور الثاني للأب كامل الجلمود (أشرف برهوم). دعك من دوره مختاراً للقرية، فما إنْ تطرأ في خيالك صورة مختار حتّى تعرف حدوده الفنية النمطية، التي عايناها في أعمال عدّة سابقة. أشرف برهوم، في جلسته ووقفته ومشيته، يمنح شعوراً بأنّه دخل موقع التصوير ثم لحقه الطاقم الفني من إخراج وتصوير وإضاءة. لديه ميزة، شوهدت في أفلامٍ عدّة، آخرها "الغريب" (2021)، لأمير فخر الدين، في دور عدنان، السكّير العنيف الطيب، الذي تنزل جُملته، غالباً، من الطبقة الصوتية العليا إلى السفلى، حتّى وهو يلطم ابنته فرحة ليُجبرها على الدخول إلى الغرفة، وقبلها وهو يرفض تلبية طلبات الفدائيين، لأنّه تلقّى وعداً بقرب وصول جيش الإنقاذ العربي.

تقاسم الأب وابنته الفصل الذي سينتهي بخروجه إلى المجهول فيزيائياً، المعلوم سياسياً، إلى أرضٍ مفرغة من كلّ ما زرع فيها من عمران وشجر تحته قبور جماعية.

احتاجت دارين ج. سلاّم إلى ممثلين وكومبارس قلائل، إذْ أدارت معظم فيلمها من غرفة المونة. أما الاقتلاع تحت القصف والقنص، فأظهرته بشكل مُقنِع، عبر لقطات متوسّطة وأخرى قريبة، معتمدةً على أصوات حربية وانفعالات الوجوه. لم تكن بحاجة إلى مجاميع في لقطات عريضة، كالتي في "عائد إلى حيفا" (1982)، لقاسم حول، مثلاً.

الغرفة، التي نُحشر فيها، غرفة الفتاة التي تنام على الخيش، وتسري خيوط النمل قريباً منها. وحين يهطل المطر، تجهد في مدّ أصابعها من شقّ لتشرب بضع قطرات. هنا تبول في زاوية مكان مرصود لخزن الطعام، وهنا يسيل دم دورتها الشهرية. ومع توالي الأحداث، نتذكّر على الهامش بعضاً من سيرورة السردية حين تتكسّر اللهجات، خاصة لدى إنتاج العمل خارج فلسطين. لطالما كانت الأفلام والمسلسلات صادقة النيّات، تزجى لها التحية، مع إبداء ملاحظة حول ضرورة وجود مدقّق لهجة.

يصعب على الفتاتين "فرحة" و"فريدة" (تالا قموّه) إتقان مخارج الحروف، كما في قرية فلسطينية، وتحت ضغط شهرٍ من التصوير. لكنّ الحوارات المكتوبة أصلاً بدت في بعضها عمّانية، والقرويون لا يتحدّثون هكذا. هذا احتاج إلى تدقيق لغوي، غاب عن المخرجة، كاتبة النصّ أيضاً.

في ردهات الأمم المتحدة، كما في "فرحة"، لا يؤدّي الكشف عن مجزرة ضحايا فلسطينيين فوراً إلى إحقاق حقوق سياسية. لكنّه، وإنْ كان لا يبني مدماكاً فلسطينياً، يهدّ لبنةً من لبنات الرواية الصهيونية، المُدجّجة بالسلاح والكذب. هذا مؤكّد و صعب للغاية بعد أكثر من سبعة عقود على احتلالٍ، وَعَدَ ـ منذ تأسيس كيانه عام 1948 ـ بأنّ الكبار سيموتون، والصغار سينسون.

هناك يوم واحد في العام المقبل سيكون يوم النكبة، الذي يعني إسرائيلياً يوم الاستقلال. بينما تنعم إسرائيل بقرار أمميّ، نَصّ منذ عام 2005 على أنْ يكون يوم 27 يناير/كانون الثاني، سنوياً، يوماً دولياً لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست. يومٌ أمميّ واحد، نتمنى ألاّ تقع فيه أغلاطٌ كارثية، كالتي لحقت بمجزرة قرية الدوايمة، قضاء الخليل، عام 1948، حين أخبرت بعثةُ الجامعة العربية الأممَ المتحدة بوقوع مجزرة، وبدلاً من "الخليل" كتبت "الجليل" بفارق جغرافي بعيد بين شمال فلسطين وجنوبها، ما ضيّعنا في منصّات العالم وعلى الأرض. هذا ما شرحه يوماً الأكاديمي الفلسطيني سلمان أبو ستة.

مقابل هذا اليوم، وعلى أهميته طبعاً، هناك أيامٌ بلا حَدّ لإنجاز أفلامٍ على هذه السوية التي خرج بها "فرحة" دارين ج. سلّام، الذي يُحسب له بناء درامي مُحكم، جعل الناجية على حافة الموت تكبر، وتصبح امرأة لاجئة في بضعة أيام. هذا الزمن المخيف يحيل إلى الفيلم السوفييتي "تعال وشاهد" (1985)، لإليم كليموف، بعينيّ طفلٍ عاش ويلات الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وصار بسرعة عجوزاً.

الإبادة التي لحقت بالفلسطينيين عنوانها النكبة. أيُّ سردية فلسطينية حديثة خُلقت حتماً قبل النكبة وبعدها، مهما كانت ذاتية.

المساهمون