عودة ناقصة لأدريان لين: سينمائيّةُ الشبق الإيروتيكي في حُلّة عادية

عودة ناقصة لأدريان لين: سينمائيّةُ الشبق الإيروتيكي في حُلّة عادية

10 يونيو 2022
آنا دي أرْماس في "مياه عميقة": امرأة الغواية وسيدة التمرّد (الملف الصحافي)
+ الخط -

إطلالة منتظرة لمخرجٍ يُثير، دائماً، جدلاً يتناول مضامين أفلامٍ صادمة في تحليلها نفساً وروحاً بشريّتين، وفي منحها الجسد آفاقاً شاسعة لاختبار رغباته وهواجسه وحاجاته.

البريطاني أدريان لين (1941) يُنجز جديداً له بعنوان "مياه عميقة" (2022)، بعد 20 عاماً على آخر روائيّ طويل له، "خائن" (Unfaithful)، المُنجز عام 2002. فترة طويلة، تُنتج عملاً، نصّه السينمائي غير مُختلف عن المُعتاد في غالبية أفلامه السابقة: التشويق المُرافق للإيروتيكية، وطرح أسئلة عن العلاقات والنزوات والأحاسيس، وجعل الجسد معبراً إلى امتلاك الآخر، وتفتّت الذات.

بعض أفلامٍ له عالقةٌ في ذاكرةٍ فردية أكثر من غيرها. "9 أسابيع ونصف" (1986)، مع ميكي رورك وكيم بايسنغر، يبقى الأشهر، والأكثر رسوخاً في تلك الذاكرة، لإمعانه في تصوير (بيتر بِزيو) اللاملموس في علاقة جسدية شبقية حادّة، والخروج بتصوير كهذا إلى المساحة الأوسع للانفعال وتخبّطاته، وللهوس بالجسد والآخر، في لعبةٍ ترتكز على ثنائية انجذاب ـ تحطيم. قبله، يُنجز لين "فلاشدانس" (1983)، غير المندرج في هواجس من يذهب بعيداً في معاينة أحاسيس مندرجة في عنف الجنس وملذّاته الأعمق من متع اللحظة. "فلاشدانس" يروي حكاية ألكس أوِنْس (جنيفر بيلز)، المسحورة بالرقص، التي تختبر شظف عيشٍ في قاعٍ، قبل خلاصٍ لها يُتيحه الجسد أيضاً، لكنْ في اتّجاه آخر، لن يخلو كلّياً من بعض سمات المقبل في نتاجات أدريان لين، اللاحقة عليه.

تعداد عناوين أبرز تلك النتاجات كاف لاستعادة سيرة مخرجٍ، مهموم بالجسد ونزعاته ومتطلباته وأهوائه، رغم إمكانية نقدية للقول إنّ تعامل لين مع الجسد يتحرّر من كلّ تنظيرٍ، فلسفي واجتماعي ونفسي وانفعالي، فالجسد نواة أساسية للمرء في عيشه، وكلّ رغبةٍ في عيشٍ أهدأ (قدر المستطاع) غير مُكتملة من دون تفاهم مع الجسد، مع أنّ تفاهماً كهذا غير مُكتمل كلّياً أيضاً: "جاذبية قاتلة" (1987) و"سُلَّم يعقوب" (1990) و"اقتراح غير لائق" (1993)، وصولاً إلى "لوليتا" (1997)، المُقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للأميركي ذي الأصل الروسي، فلاديمير نابوكوف، صادرة عام 1955، والمُثيرة لاهتمام الأميركي ستانلي كوبريك إلى حدّ اقتباسه السينمائيّ إياها، عام 1962، في نسخةٍ تبقى أهمّ وأعمق وأجمل من نسخة لين.

غير أنّ الهوس بالجسد، وما يمنحه للمرء من شغفٍ وملذّات ومصائب ومتاعب، لن يختصر السيرة السينمائية لأدريان لين، وإنْ يبقَ الجنس، بأشكاله المختلفة، أساسيّا. في جوانب عدّة، تظهر تساؤلاتٍ عن الحياة والموت والجريمة والحرب والانكسار والتمزّق، العاطفي والنفسي والروحي. تظهر اهتمامات، تنبثق من الجسد وغليانه وآلامه، لتكشف أهوالاً في اليوميّ والحسّي والعقليّ.

 

 

إعادة مُشاهدة هذه الأفلام كفيلةٌ بتنبّه إضافيّ لتلك الجوانب، أو لبعضها على الأقلّ، وللبعض حضورٌ في "مياه عميقة" (Deep Water) أيضاً، تنكشف معالم منه (البعض) في سيرة الزوجين فان آلن، فكتور (بن أفلك) ومليندا (آنا دي أرْماس). وصف الفيلم، في تعريفه، بأنّه "ثريلر إيروتيكي"، يختزل التساؤلات كلّها، فللمفردتين هاتين دلالاتٍ تبدأ من المباشر، وتتوزّع على الجنس والحبّ والجريمة والتشويق، وبينها تمريرات عن أسئلةِ راهنٍ، كـ"الطائرات المُسيَّرة" ووظيفتها، والكتابة الروائية والسينمائية، والصداقات المتحوّلة إلى علاقات جنسية، والماضي الثقيل بأسراره وخفاياه، واللعبة ـ العنيفة أحياناً وإنْ بشكلٍ غير مباشر ـ للتجاذب/الكراهية (كلّ واحدة من المفردتين تحمل، في "مياه عميقة"، ما يتخطّى معناها المتداول)، وللرغبة في تحطيم الآخر، بسبب حبّ جارف له.

زوجان وابنة، تُدعى تريكسي (غرايس جانكنس)، يُقيمون في منزل جميل. لا شيء في حياة فكتور ومليندا مُثير لحماسةٍ أو شغفٍ أو هناء. الزواج معطّل. هذا يستدعي خروجاً من أعطابه، سيرتبط (الخروج) بفسحةٍ يُفترض بها أنْ تُتاح لهما في آن واحد: كلّ منهما يتّخذ عاشقاً/عاشقة أو أكثر (وللزوجة مغامرات أكثر من تلك التي للزوج)، لاختبار الأبعد من حبّ وزواج وعائلة. الرغبات الجنسية أساسية، والعلاقات خارج الزواج منفذ لإصلاح علاقة وشعور وتواصل (أهما يرغبان، فعلاً، في إصلاح المعطَّل بينهما؟).

لفكتور صيتٌ منبثقٌ من مزاح قديم، يقول بارتكابه جريمة قتل بحقّ شابٍ. سيعترف لاحقاً، في إطار المزاح نفسه، بأنّه مُرتكب الفعل الجُرميّ. مهنته متوقّفةٌ، بعد اختراعه رقائق خاصة بطائرات مُسيَّرة، وهذا يحضّ دون ويلسن (ترايسي لاتْس) على نقاشٍ حول دور هذه الطائرات في قتل المدنيين أيضاً. ويلسن كاتب قصص قصيرة، وله نصّان للسينما الهوليوودية. يرتاب بفكتور، فيلاحقه بحثاً عن "تأكيد" ما يعرفه عنه. زوجته كريستن بيترسن (رايتشل بلانشارد) امرأة عادية، تعتذر لاحقاً من فكتور عن ثرثرة زوجها بخصوص جريمة القتل الأولى تلك (!).

التوافق على علاقات خارج الزواج يؤدّي إلى نتائج مُثيرة للهلع والترقّب والتشنّج والصدمات. النزاع بين الزوجين خفيّ، ومليء بعنفٍ كلاميّ لن يُترجم إلى عنف مادي بينهما. هناك حبّ وشغف يستمرّان في عيشهما معاً. لكنّ الحاصل لاحقاً ينصبّ على توازنٍ حياتي بين علاقاتٍ جنسية لمليندا مع رجالٍ، تتعرّف حديثاً إلى بعضهم، وتستعيد علاقات قديمة مع بعضهم الآخر، وأفعالٍ جُرمية لفكتور، مليئة بتراكمات انفعالية تستند إلى هوسٍ بتملّكه مليندا، وعجزٍ عن تثبيت التملّك.

في هذا كلّه، تظهر سمات سينمائية لأدريان لين، تمزج بين الثريلر والإيروتيكية، وأسئلة الحياة والعلاقات والصداقة والحبّ/الكراهية. فـ"مياه عميقة" ـ المقتبس من رواية بالعنوان نفسه للأميركية باتريشيا هايسميث، صادرة عام 1957 (سيناريو زاك هالْم وسام لَفنْسن) ـ يُكمِل شيئاً من تفنّن أدريان لين في التقاط الحالات كلّها، وأبرزها تلك المتعلّقة بالشبق والغريزة البشرية، من دون بلوغ جمالياتها (الحالات) المشغولة في أفلامٍ سابقة له.

المساهمون