صحافيو لبنان: كفاح البقاء

صحافيو لبنان: كفاح البقاء

23 سبتمبر 2021
الأزمة تجرف معها حريات القطاع الإعلامي في لبنان (حسين بيضون)
+ الخط -

يُكافح الصحافيون العاملون في لبنان من أجل البقاء في الميدان وممارسة عملهم بمهنية عالية وحرية واسعة لنقل الحقيقة الكفيلة بمساعدة الناس على محاسبة حكّامهم وأصحاب القرار السياسي والمالي، ولا سيما بعد انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول، بيد أن المهمة لم تعد سهلة في ظلّ حصار شامل ضيّق الخناق عليهم أكثر ربطاً بتعدّدِ أساليب القمع، وارتفاع منسوب المخاطر الجسدية والتحديات التي فاقمتها أخيراً الأزمة الاقتصادية.

الصعوبات كثيرة ويضعها المسؤول الإعلامي في مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية "سكايز"، جاد شحرور، ضمن خانتَيْن: الأولى متصلة بالممارسات القمعية، والثانية مرتبطة بالأزمة الاقتصادية التي تنعكس بتداعياتها أيضاً على موضوعية الصحافيين ومهنيتهم. على صعيد الأزمة الاقتصادية، يشير شحرور إلى تغييرات كثيرة طاولت طبيعة العمل الصحافي اليومي، نتيجة الشحّ في المازوت والبنزين والانقطاع المتواصل للكهرباء، سواء لناحية الدوامات المتقلّبة وتقنين التغطيات الميدانية والبث المباشر وإقفال بعض المكاتب والمؤسسات، محذراً في السياق من الانعكاسات الخطيرة لفقدان رواتب الصحافيين بالعملة الوطنية قيمتها على حرية عملهم ومهنيتهم ولا سيما أن المنظومة الحاكمة سياسياً ومالياً لهم بالمرصاد، وتستغل تردي الأوضاع للتأثير على الصحافيين، وباعتبار أن غالبية المؤسسات الإعلامية المحلية ممولة من قبل شخصيات سياسية أو رجال أعمال أو مصارف لديهم تورط أيضاً أو شراكة مع أحزاب السلطة، وهو ما يؤثر على المحتوى الإعلامي.

كان آخر انتهاك ضجت به الأوساط الصحافية في لبنان الأسبوع الماضي، حينما منع القصر الرئاسي مراسلة "الجديد" ليال سعد من التغطية في المقر الرسمي. على صعيد الحريات، يقول شحرور إنّ "الصحافيين يواجهون في لبنان أشكالاً متعددة من الترهيب والقمع، أبرزها الاعتداءات المباشرة التي طاولت مراسلين ومصوّرين أثناء تأدية عملهم الصحافي وتغطياتهم الميدانية، سواء من قبل العناصر الأمنية أو حرس مجلس النواب قبل أن نرصد في الفترة الأخيرة ممارسات لم تعد تقتصر على الأجهزة الأمنية، بل انضم إليها مناصرو الأحزاب وأشخاص يتمتعون بحماياتٍ حزبية لتصل إلى الضرب والطعن بالسكين، عدا عن المضايقات والشتائم التي تنهال على الصحافيين، ولا سيما الصحافيات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتهديدات التي تطرق أبوابهم". ويتوقف شحرور عند ترحيل كبير مراسلي وكالة "رويترز" في الأردن وسورية سليمان الخالدي، إلى الأردن، بعد استجوابه لدى وصوله إلى مطار بيروت في مهمة صحافية يعدّ بمثابة علامة فارقة في عام 2021، خصوصاً أن المديرية العامة للأمن العام اكتفت بوضع خطوتها في إطار القرار السيادي، ولم نعلم بالخرق الذي ارتكبه. كما يتوقف عند ما تعرّض له الإعلامي رياض قبيسي من اعتداءٍ أمام إحدى محطات الوقود، عندما أقدم شخصٌ على تحطيم زجاج سيارته بمجرد أنه وثق خروقات ارتكبتها عناصر من قوى الأمن الداخلي، وهي حالة تكررت مع صحافيين محليين وأجانب أمام محطات الوقود وعند تغطيتهم وقائع الأزمة.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

وقبيسي، وهو من أبرز الصحافيين الاستقصائيين في لبنان ومتخصص في كشف قضايا الفساد، اختار المسار القضائي بعد ما تعرّض له من اعتداءٍ بمجرد أنه صوّر كيف أن الخط الساحلي مقفل بسبب سيارات تدخل عكس السير بتعاون وتسهيل وتنظيم من الدرك. وتقدم بشكوى أمام النيابة العامة التمييزية ضد المعتدي وعناصر الدرك الذين كانوا يؤمنون ويسهلون عبور السيارات عكس السير، ووقع الاعتداء أمامهم ولم يبادروا إلى توقيف المعتدي فوراً وكذلك الضباط المسؤولين عنهم. لا يجزم قبيسي في اتصال مع "العربي الجديد" أن الاعتداء عليه متصل بكونه صحافيا، خصوصاً أنه لم يكن بمهمة صحافية ولم يعرف عن نفسه كونه صحافياً، ولكن بغض النظر عن صفته "فإن ما تعرض له سببه تصويره وتوثيقه وفضحه المخالفات التي تحصل وهو أمرٌ خطيرٌ". أما تحميله مسؤولية ما يحدث معه إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، فيأتي ربطاً بإثارته ما حصل معه، وهو ما أثار ضجة كبيرة وغضباً واسعاً في الوسط الصحافي والشعبي.

بدوره، يقول المنسق الإعلامي لـ"تجمع نقابة الصحافة البديلة" محمد قليط لـ"العربي الجديد" إنّ الأزمة الاقتصادية الأكبر تطاول العاملين الذين يقبضون بالليرة اللبنانية، بحيث أصبحت رواتبهم بلا قيمة وقد تصل إلى 150 دولاراً مثلاً، في حين أن هناك مراسلين يمتلكون خبرة أعوام، ويعملون ليلاً نهراً ويغطون في ميادين ومناطق إشكالات ونزاعات، ويعرّضون أنفسهم للخطر من أجل راتب بات زهيداً جداً لا يكفي للمواصلات أو شراء مواد غذائية أساسية أو حتى تكاليف مولدات الكهرباء الخاصة وغيرها من الخدمات. ويشير قليط إلى أن "مؤسسات إعلامية عدّة قامت بترشيد البث وأخرى أقفلت أبوابها، خصوصاً على صعيد الإذاعات والمواقع الإلكترونية، ومنها طلبت من الموظفين العمل من المنزل والتلفزيونات ما عادت تغطي كل الأحداث في ظلّ أزمة البنزين، وهو أمرٌ خطيرٌ جداً، وقد ظهر ذلك عند وقوع انفجار التليل في عكار شمالي لبنان، بحيث حالت المسافة البعيدة وشح البنزين وإقفال محطات الوقود دون توجه الصحافيين والمراسلين والمصوّرين إلى المكان رغم كبر الحدث وأهميته".

في ملف الحريات الإعلامية، يشدد قليط على أنها باتت بخطرٍ كبيرٍ مع تزايد التسلط الأمني والبوليسي على المنظومة السياسية، ونيّة السلطة عدم إظهار الحقيقة للناس أو نقل الوقائع إلى الرأي العام كما هي، ولعلّ أحدث مثال تصريح وزير الإعلام الجديد جورج قرداحي الذي جعل من نفسه وصياً على الوسائل الإعلامية، وتمنى عليهم عدم استقبال محللين سياسيين "يصوّرون وكأن البلد ذاهبٌ إلى الخراب"، وهو تصرّف يؤكد محاولات نكران الواقع والتحايل عليه فنحن أصلاً في الخراب، والكل يعلم كيف تشكلت الحكومة التي لا يريد لهؤلاء انتقادها. ولا يغفل قليط أيضاً الصعوبات النفسية التي تحيط بالصحافيين والمصورين الذين ينقلون الأحداث والصورة كما هي بكل حالاتها وقساوتها ومعاناة الناس اليومية.

من بين أشكال القمع والتضييق والتخوين ما تتعرض له الصحافية الاقتصادية محاسن مرسل، التي يرتكز عملها على نقل الصورة كما هي إلى المواطن اللبناني، وعرض المعلومات الهامة التي عليه أن يعرفها في ظلّ العمليات والمناورات الاحتيالية التي يتعرض لها، وتفاقم أزمته المالية ومخاطر لعبة السوق السوداء وداعميها التي تهدف إلى تضليل الناس وإيقاعهم في فخ الإيجابية لسحب دولاراتهم. تقول مرسل لـ"العربي الجديد": "نحن نتناول مواضع اقتصادية ومعيشية تعني المواطن اللبناني، وتطاول ملفات المصارف ورفع الدعم، وقضايا طبعاً تصب ضدّ نفَس السلطة الذي وظّف الدعم بأكثر من عشرة مليارات دولار، وأنفقه من دون أن يستفيد منها المواطنون أصحاب الحق". وتشير مرسل إلى أن "الإضاءة على الواقع كما هو من دون ترقيع أو تجميل أو تحايل وتزييف عرّضنا لاتهامات كثيرة من نوع نشر أجواء سلبية، وتصب في إطار حملات التخوين، وبأننا مأجورون وأصحاب أجندات خارجية وتقارير مزيفة، وهي أساليب تدخل كلها في دائرة كمّ الأفواه الذي يفاقمه أيضاً الهجمات المستمرة من الجيوش الإلكترونية العائدة للأحزاب، ودخلت عليها حديثاً المصارف التي أصبح لديها من يحمل راية الدفاع عنها وعن ممارساتها".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

انتشار الفوضى العارمة وارتفاع منسوب القمع والترهيب والاعتداءات عدا عن الترحيل، في ظل غياب المحاسبة والشفافية لدى الأجهزة الأمنية والرسمية واتجاه البلاد أكثر إلى الأنظمة البوليسية، دفع بالصحافية لونا صفوان إلى مغادرة لبنان في الفترة الراهنة نتيجة ما أسمته أيضاً "خيبات أمل متراكمة ومتتالية" بإمكان إحداث التغيير، لا بل شعور وثيق بأنّ الأوضاع ذاهبة نحو الأسوأ على صعيد الحريات الإعلامية. وتقول صفوان لـ"العربي الجديد": "لم أجد أن هناك آلية للمحاسبة أو متابعة للقضايا والتحديات تكبر، ولا حلول حتى بسيطة فوجدت نفسي غير قادرة على البقاء في لبنان، خصوصاً وأنا أرى ارتفاع منسوب الاعتداءات على الصحافيين وتزايد المخاطر على حياتهم الشخصية وسلامتهم، حيث إن نقل الصورة كما هي حتى مثلاً على محطات الوقود أو الصيدليات أصبح يشكل خطراً على المراسلين والمصورين والعاملين في المجال الإعلامي، في ظلّ الوضع النفسي الصعب والضاغط الذي يمرّ به المواطنون، ما يضعنا أمام ساحات معارك مفتوحة".

في المقابل، هناك الصعوبات الاقتصادية التي تواجه الصحافيين وباتت من التحديات، خصوصاً لمن هم يعملون بشكل مستقل وغير مثبتين في مؤسسات إعلامية، وهو ما يفقدهم حقوقا أساسية مثل التأمين والضمان الصحي الاجتماعي، عدا عن الرواتب التي لم تعد تكفي في ظل الانهيار والغلاء الفاحش وتفلت الأسعار وعموم الأزمة، من دون أن ننسى أن مهنة الصحافي أصلاً لا تكسبه الكثير من المال وتدفعه دائماً إلى البحث عن بدائل أخرى أو مصادر إضافية للعيش بكرامة.

من جانبه، يقول الصحافي والكاتب السياسي آلان سركيس لـ"العربي الجديد" أن "الانهيار بمجرد حصوله يجرف معه كلّ القطاعات والمهن، وحكماً وسائل الإعلام التي تعاني أصلاً منذ سنوات طويلة من أزمة مادية حادة مع توقف التمويل السياسي الذي تقوم عليه، في حين لم تتمكن من تكوين صحافة إنتاجية، فكان إقفال عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية والتعثر في سداد رواتب الموظفين مع تراجع عائدات الإعلانات أيضاً، ومن استمرّ تأثر حكماً بالأزمة الاقتصادية ومنهم من أوضاعه مزرية تماماً". ويشير سركيس إلى أن "وزارة الإعلام والنقابات المعنية لا تقوم بدورها لأسباب كثيرة، وهي حتى لو كانت لديها نية بذلك غير قادرة على فعله في ظلّ موازنات محدودة ومخفّضة لا تكفي لرعاية العمل الإعلامي، ما خلق مبادرات فردية للمطالبة بحقوق الصحافيين، وأدى حكماً إلى هجرة إعلاميين أو نزوحٍ من مؤسسات محلية إلى أخرى أجنبية وعربية مركزها لبنان لتقاضي رواتب أعلى وبالدولار الأميركي".

وحول أزمة المحروقات والكهرباء، يرى سركيس أنها "انعكست على الصحافيين كما كل المواطنين وعرقلت كثيراً عملنا حتى أن من يملك المال للتزود بالبنزين مثلاً في ظلّ ارتفاع سعر الصفيحة ليس بمقدوره ذلك، وعلينا أن ننتظر في الطوابير لساعاتٍ حتى يصل دورنا، وهو ما يؤخر التغطيات ويحول دونها في أحيانٍ كثيرة، علماً أنّ معلومات سرت بأن هناك تسهيلات ستعطى للصحافيين في هذا المجال على محطات الوقود، بيد أن شيئاً لم يحصل بعد على أرض الواقع".

وفي سياق القمع وتراجع الحريات الإعلامية في لبنان، يقول سركيس: "مررنا بفتراتٍ قمع كبيرة على مستوى المؤسسات وفي حقب مختلفة منها أيام النظام السوري، وإقفال كبرى وسائل الإعلام المرئية مثل قناة أم تي في، ويستمرّ المشهد نفسه اليوم بأساليب وأشكال مختلفة ومتعددة، حتى أن هناك مناطق محرمة على الصحافيين وتحتاج إلى إذن حزبي للدخول إليها وتغطية حدثٍ ما فيها وهي مربعات أمنية تعيق عمل الصحافيين". ويرى سركيس "أن القمع الأخطر بدأ بعد انتفاضة 17 أكتوبر وطريقة تعاطي الأجهزة الرسمية مع الصحافيين، حتى أنها لم تميّز بينهم وبين المتظاهرين أو من تضعهم في خانة "مثيري الشغب"، فكانت تعتدي على المراسلين والمصورين وتقوم بتحطيم وتكسير معداتهم، في حين أنها لم تعمد إلى محاسبة أي من العناصر الأمنية وقد تكتفي أحياناً بالاستنكار، مشدداً على أنّ الوضع لم يعد يحتمل ويحتاج صرخة مدوية لأن لبنان بلد الحريات أصبح بلد قمع الحريات".

المساهمون