شقاء الدنانير العشرة

شقاء الدنانير العشرة

14 يناير 2023
من "تعال وضمني" لمنموهان ديساي (يوتيوب)
+ الخط -

بكيتُ تأثّراً عندما شاهدته. بل استمر بكائي أياماً. أكثر من هذا، لا أزال إلى اليوم، عندما أتذكّر تلك اللحظة، أبكي. هذا ما حدث لي الآن (كتابة المقالة)، لأنّي اعتقدتُ حينها أنّ الفيلم يحكي قصّتي بطريقة ما، وأنّ الطفل الذي يستند على عكّازين هو شبيهي. فقط، أنا لم أكن أملك عكّازين مثله، ولم يكن صوتي طربياً كصوته، يسحر به كلّ من يسمعه. لكنّي أشترك معه بكوني طفلاً بائساً ويائساً ويتيماً ومُعدماً ومُحطّماً، أعيش بعيداً عن أمّي التي افترقت عن والدي.

لم يكن لي صدرٌ حنونٌ أضع عليه رأسي، ولا فراش دافئ آوي إليه عندما يشتدّ البرد، ولا وجبة طعام آكلها عندما أجوع. كلّ هذا لا يهمّ، في ظلّ غياب الأم. هذا منطلق رئيسي أشترك فيه مع الطفل "راهول" الذي يعيش بعيداً عن أمّه كبُعادي عن أمّي. وعليه، تشابكت طاقته الروحية بطاقتي، وأصبحتُ أنظر إلى الحياة بعينيه، وقلبي ينبض حزناً وألماً بقلبه. وعندما بدأ يغنّي في مشهدٍ، بصوته الرخيم المنكسر: "جانيتو يا جانينا... مانيتو يا مانينا"، أحسستُ أنّ مُصابه مُصابي. بل ربما هو سرق حكايتي. لهذا، كان تأثّري به لا يوصف بأي طريقة. كان بركاناً من تلك الأحاسيس المتّقدة، خاصةً أنّي فسّرت كلمات الأغنية بحسب هواي ومنطلقي، وبحسب الفراق الذي كان يتآكل قلبي الهشّ.

في تلك اللحظة الفارقة من حياتي، تذكّرتُ أمي التي أعيش حياة قاسية من دونها، فسالت الدموع من عينيّ من دون صوت. لم أحسّ وقتها بما حولي، ولا ببرودة الإسفلت الذي أجلس عليه، ولا بالجوع الذي يتآكل أمعائي. فقط، كنتُ أفكّر في الحياة وشكلها من دون أمّ، نقلني إليها "راهول" الذي كان يغنّي في حفل زفاف أمّه، ولا يعرف أنّها أمّه.

عُرض الفيلم في منتصف تسعينيات القرن الماضي. ربما كان عمري 12 سنة أو أقلّ. لم أعرف لغته، ولا معاني كلمات الأغاني التي بثّت فيه، ولا اسم المخرج، ولا العنوان الحقيقي الذي يحمله. كلّ هذا لم يكن مهمّاً بالنسبة إليّ، لأنّي عشتُ تفاصيل القصّة المحزنة، ووصلني إحساسها ومرارة فراق أبطالها. كنتُ أسمّيه فيلم "جانيتو"، كغيري. فقط، حين نضجتُ وكبرتُ وتعمّقتُ أكثر في السينما، عرفتُ أنّ عنوانه "تعال وضمني"، وأنّ مخرجه هو منموهان ديساي، وأنّ تاريخ إنتاجه عائدٌ إلى عام 1973.

عرض تلفزيونياً في الجزائر بعد نحو عشر سنوات أو أكثر من عرضه في قاعات السينما تجارياً، وهناك آلاف أو ملايين مثلي، ممن تعلّقوا به، وصنعوا من خلاله ذكرى لا تنسى. ورغم أنّي عرفتُ تفاصيل ومعاني جديدة عنه، ظلّ المعنى الذي شربته أول مرة "الحقيقة المطلقة" إلى اليوم، ولا أريد بأي طريقة أنْ أفسده، لأنّه يصعب عليّ العودة 30 سنة إلى الوراء، وتغيير ما حُفر عميقاً في القلب.

لم أكن وقتها أعرف شيئاً عن قاعات السينما، لأنّها كانت مُغلقة ومهجورة، بسبب ما عاشه البلد من حربٍ أهلية، بين النظام والجماعات الإرهابية المسلحة التي زرعت الرعب. لاحقا، سُمّيت تلك المرحلة العشرية السوداء، أو عشرية الدم (1991 ـ 2001). عشنا فيها رعباً وخوفاً كبيرين. ورغم أنّي كنتُ طفلاً صغيراً، أرهقني شعور الخوف الذي كنتُ أراه في وجوه من حولي، وزادت عليه مشاهد الجثث المتناثرة في الساحات، ومناظر الدماء على الجدران والأرصفة، وأخبار الموت الذي يحصد أقارب ومعارف وجيرانا. كلّها معطيات زرعت في جيلي أحاسيس اللّاأمن، من ناحية النظام الذي كان يبطش بالشعب لبثّ الرعب فيه من أجل تغيير معسكر الخوف، بحسب تعبير أحد السياسيين، أو من ناحية الجماعات الإرهابية المسلحة التي كانت تكفّر وتقتل وتجلد وتُنكّل بجميع أفراد المجتمع، ولم يسلم منها الرضّع والأطفال الصغار، بحجة أنّهم سيكبرون ويدخلون الجيش، أو على الأقلّ هذه السردية تسلّلت إلى أذهاننا.

سينما ودراما
التحديثات الحية

إضافة إلى حياة الجوع والفقر والبؤس التي كانت تعيشها شريحة واسعة من المجتمع، منها أنا شخصياً، إذْ كنتُ أسكن في بيت صفيح، أو كما كنا نسميها "برّاكة"، ولا أدري إلى الآن أصل التسمية. لم تحمني "برّاكة" من حرارة الصيف وبرد الشتاء. انعدمت الكهرباء والمياه وقنوات الصرف الصحي. لهذا، كانت المآسي عظيمة، والترفيه حاجة زائدة عن اللزوم، خاصة في المدن والقرى والبلدات الداخلية، كحال بلدتي. لكنْ، كنا نعيش بعض أجواء الترفيه الطفولي الذي نصنعه من لا شيء. مع هذا، كان طموحي أكبر من أقراني، خاصة أنّ أجواء "جانيتو" حفرت عميقاً فيّ، وكان تجربة لم تتكرّر بالنسبة إلي، في ظلّ غياب الكهرباء في مجتمع الصفيح. لهذا، كان لا بُدّ من تكرار التجربة في الـ"فيديو"، أي الفضاء الذي يطلق عليه هذه التسمية، حيث يقوم "سينفيليون" باستئجار مستودعات بسيطة، يؤثّثونها بكراسي خشبية، وجهازي تلفزيون وبثّ فيديو.

لهذا سمّيت تلك الفضاءات "فيديو"، حيث يعرض أصحابها ما متوسّطه ثلاثة أفلام كلّ ليلة، وسعر المُشاهدة عشرة دنانير للفرد: الفيلم الأول "أكشن"، يكون عادة أميركياً، والثاني مصريا، ومعظم المرات أفلام عادل إمام أو "ابراهيم الطاير"، بحسب تسمية أطلقناها عليه في الجزائر، والثالث يُمنع منعاً باتاً على كل من يقلّ عمره عن ثماني عشرة سنة من مشاهدته، أي لا يُسمح للأطفال الدخول، إلا إذا كان صاحب الـ"فيديو" جشعا، أو كان الطفل مشاكساً وعنيداً.

لاستمرار هذا الطقس الترفيهي، الذي بات يشبه كثيراً قاعات السينما، يُنشر حرّاسٌ في زوايا الحي لمراقبة دوريات الأمن أو الجماعات الإرهابية المسلّحة. بمجرد لمح أحد الفريقين، يُبلِّغ الحارس صاحب محل الـ"فيديو"، فيُغلق الأخير الأبواب على من فيه، ونبيت ليلتنا في ظلام دامس، من دون التفوّه بكلمة، خشية أنْ تُسمع أصواتنا فيُقتحم المكان. إنْ نجونا من الذبح والقتل، لن ننجو من الاستجواب والضرب بالهراوات، وربما المبيت في الثكنة أيضاً. لهذا، ننتظر شروق الشمس، والتأكّد بشكل نهائي من خلو المكان من أحد الفريقين.

كان شغلي الشاغل أنْ أحصل على الدنانير العشرة، لأنّها بالنسبة إلي ثروة، يجب تدبّرها لمشاهدة الفيلم. لهذا، كنتُ أجمع المواد البلاستكية لبيعها، حتى يعاد تدويرها، أو العمل في حقول الخضر، خاصة في موسم قطف الطماطم الصناعية، وهذه مرحلة مهمّة في حياة كّل طفل فقير، لا بُدّ أنْ يمرّ فيها، بطريقة أو بأخرى. أحياناً، أعملُ في البحر، فأجمع الدود الذي يُستعمل كطعم صيد، وأبيعه في سوق السمك، أو أحمل صندوق المشروبات الغازية من المصنع، إلى صاحب الـ"فيديو"، كي يبيعها لزبائنه بديلاً عن الفشار، وبالتالي أضمن مشاهدة مجانية.

استمرّت هذه الفضاءات في عرض الأفلام سنواتٍ، وكانت بديلاً حقيقياً عن قاعات السينما المغلقة. ورغم أنّ معظم الأفلام المعروضة فيها إمّا أكشن أو كوميديا، عرّفتني على السينما ونجومها، أمثال جان - كلود فوندام وجاكي شان وبروس لي وعادل إمام وسعيد صالح، وغيرهم كثيرون. والغريب في الأمر أنّنا نطلق على تلك الأفلام عناوين من اختيارنا، لتصبح مع الوقت عناوين بديلة. حتّى إنّنا لا نهتم مُطلقاً بالعناوين الأصلية.

شخصياً، تعرّفت من خلال هذه الأفلام على المبادئ الأولى لفنّ السينما، وأحببته. زاد عشقي له مع صعوبة الوصول إلى الأفلام، خاصة أنّها كانت بديلاً لحياة البؤس التي كنت أعيشها، ونافذة مُشرّعة للحياة التي كنتُ أودّ عيشها. كانت بديلاً لي عن الواقع ومآسيه، وجسراً ثانياً أعبر عليه إلى الحياة التي كنتُ أودّ عيشها، وهذا بعد الكتب وسحرها، إذْ كانت السينما والرواية بالنسبة إلي البديل الأساسي عن الواقع المرّ الذي كنتُ أعيشه. كأنّها باتت آلة زمن تنقلني من مكان إلى آخر، لأعيش حياة الآخرين.

دلالات

المساهمون