زكرياء نوري: الصمت دعوة إلى البحث في لغة الجسد

زكرياء نوري: الصمت دعوة إلى البحث في لغة الجسد

09 مايو 2021
زكرياء نوري: (الملف الصحافي لفيلم "عائشة")
+ الخط -

في فيلمه القصير الأوّل "عائشة" (2020)، يترك المخرج المغربي الشاب زكرياء نوري عنصر التجريب، الذي تنطبع به عادة الأعمال السينمائية الواعدة، ويغوص في جحيم واقعٍ مغربي، بتفاصيله وتصدّعاته ونتوءاته. بالنسبة إليه، للواقع أهميّة كبيرة، بوصفه فضاء بصريّاً، يحتوي على مواجع الذات وانكساراتها، في مجتمعٍ لا يرحم ولا يصون حقوق المستضعفين فيه. امرأة تدعى "عائشة" (نسرين الراضي)، تدير حياتها وحدها، للاهتمام بوالدتها المريضة. لكنّ المُخرج لا يتوقّف عند الحكاية وقدرتها على نسج علاقة حميمة مع المُشاهد، بل يُركّز على تفاصيل دقيقة في عيشها، ومحاولة إبراز لعبة الظلال الطبيعية، ومدى انعكاسها على حياتها اليومية، عبر الصورة، التي تُؤسّس جماليّات الفيلم وتصنع محتواه، بعيداً عن النصّ وحكايته.

بمُناسبة عرض "عائشة" في الدورة الـ11 (6 ـ 11 إبريل/ نيسان 2021) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)"، التقت "العربي الجديد" المخرج زكرياء نوري في هذا الحوار:

(*) أنتَ من الوجوه المغربيّة الواعدة في السينما. كيف جئت إلى الإخراج؟

ـ ‏لديّ شغف وإلمام بالموسيقى التي أحبّها. كنتُ أودّ دراستها، والاشتغال في الإنتاج الموسيقي. لذا، بعد البكالوريا، ‏‏‏‏التحقت بـ"المعهد العالي ‏‏للسمعي البصري". ‏في الأعوام الأولى، اضطررت لدراسة المواد كلّها المتعلّقة بالسمعيّ البصري. في أول تدريب لي، وكان في التوليف، ‏‏تعرّفت إلى محمد رضا سعود، الذي جعلني أحبّ السينما والإخراج. ‏ثم بدأت الرحلة. معها، أحسستُ أنّ الموسيقى صارت تبتعد شيئاً فشيئاً، وإنْ ظلّت حاضرة في وجداني.

(*) يرصد الفيلم حياة فتاة تتدبّر حياتها، وتُعنى بوالدتها المريضة. المُلاحظ أنّ التكثيف البصري ـ المألوف في الأفلام القصيرة ـ غائبٌ، في مقابل استطراد بصري يهتمّ بحيثيات العيش، والإكسسوار الطبيعي. لماذا؟

‏ـ أحبّ السينما التي تهتمّ ‏بالتفاصيل الصغيرة. لذا، قرّرت في فيلمي الأول طرح إشكالية الروتين في حياةِ شخصيةٍ، من دون الحكم عليها.‏ أردت الاهتمام أكثر بالإكسسوار والديكور، اللذين يلعبان دوراً مهمّاً، ثمّ قررت بناء الحبكة عليهما، حتى لا‏‏ أقتصر على الممثلين فقط. الاختيار فنيٌّ، لذا اهتممت بالإكسسوارات الطبيعية، من دون أنْ تكون الديكورات مُجهّزة، بل في أماكن طبيعية، تنقل الحميمية بين الطبيعة والفضاء، ليتسرّب وقع الفضاء إلى الصورة السينمائية. هذا كلّه للتركيز على تفاصيل دقيقة في حياة عائشة، وروتينها اليومي، والطريقة التي تتدبّر بها عيشها وعيش والدتها المريضة. الكاميرا كالعين، تلتهم الحياة اليومية. والحكم عائدٌ أساساً إلى المُشاهد وتأويلاته، فالتأويلات تصنع جماليّات الحكاية، من دون أيّ حكمٍ مسبق.

(*) ألا ترى أنّ المواضيع الاجتماعية استنفدت مادتها البصريّة في السينما المغربيّة؟

ـ ‏لا أظنّ أنّ هذا يُثير مشكلة. في السينما، والدراما عموماً، هناك نحو 30 ثيمة، ‏والاختلاف يكمن في وجهات النظر. في "عائشة"، طرحت موضوع الحياة الروتينية، بوجهة نظر مختلفة وجديدة ومعاصرة. أكثر من ذلك، في السينما المغربية، هناك مواضيع كثيرة تهمّ المجتمع لم نتطرّق إ‏ليها بعد.

(*) هل يُمكن القول إنّ لك مقاربة أخرى أكثر حداثة في تطويع الصورة ومُتخيّلها في الاجتماع المغربي؟

ـ ‏هذا صحيح. ‏تناولت مواضيع أحبّ مُشاهدتها على الشاشة الكبيرة، ‏بنظرة جديدة وأسلوب خاصّ، خصوصاً تلك التي تهمّ الناس المهمّشين‏، من دون أحكام مسبقة عليهم، ومن دون الغوص ‏في ما الذي أوصلهم إلى هذا. على هذا الأساس، أردتُ التركيز على الشخصية من خلال عيشها في الحاضر. المهمّشون جزء من المجتمع. مقاربتي تتوجّه أكثر إلى الاشتغال على الشخصيات، التي تُثير انتباهي في أفلامٍ عدّة، وكيف تتحرّك فيها. من الأشياء التي أثارت انتباهي أنّ المُشاهد أصبح له هوس في معرفة الحياة اليومية للناس، أكثر من التركيز على الحبكة. هذا تطلّب منّي خروجاً من الأسلوب العاديّ للحكي، فالحياة اليومية مطبوعة بتعقيدات وتأزّمات كثيرة.

(*) تتأسّس جماليّات الفيلم في قدرة فنية مذهلة على أخذ اللقطات وتأطيرها، واللعب على الظلال الطبيعية وتموّجاتها على الصورة. كيف جاء التفكير في رصد الجماليّات هكذا؟

ـ من الصعوبات التي تواجهها في أوّل فيلم، اختيار أهمّ عنصر. الصورة أوّل ما يتعرّف عليها المُشاهد، باعتبارها كتابة ثانية بعد الكتابة الأولى (السيناريو)، وتليها الكتابة الثالثة (المونتاج). الصورة أكثر أهميّة، لأنّ المُشاهد يتلقّفها. لذا، ضروريٌ الاشتغال على جمالية الصورة والصوت، الذي يلعب دوراً مهمّاً في الفيلم الصامت. عن هذه ‏الكيفية، تحدّثت مع مدير التصوير عادل أيوب عن أفلامٍ تلهمني،‏ كلّها تشتغل على الظلام والظلّ. ‏حدّدتُ له ضرورة الاشتغال على البساطة والتكثيف أكثر من الإبهار، ومع ذلك أضاف أشياء أخرى أخرجَتْ الفيلم بهذه الحلّة الجماليّة، المستندة أساساً إلى مراجع سينمائية كثيرة. ركّزنا على المَشاهد الداخلية في "العرّاب" مثلاً، لأني مهتمّ بالعتمة الساحرة الموجودة فيه. هذا يُميّز "عائشة": التركيز على الصورة والصوت لحظة الكتابة، لأنّهما أهمّ من كتابة قصّة، رغم أنّ الاشتغال على الظلام والعتمة مخاطرة. لذا، أحببتُ المزج بين مدرسة الـ"باروك" والمدرسة الحديثة، فضلاً عن لوحاتٍ فنية عدّة، للحصول على شاعريّة الصورة وتدفّقها في أنماطها. 

(*) لا أهميّة للحوار لديك، ما يجعل الصورة السينمائية تُضمر أكثر مما تُظهر، وتخفي أكثر مما تبوح. إلى أيّ حدّ يلعب الصمت دوراً في بلورة الخطاب السينمائي، انطلاقاً من "عائشة"؟

ـ ‏‏الصمت‏ أصعب من الكلام في تمرير رسالة ‏أو خطاب. سهلٌ توجيه كلامٍ إلى الآخر، لكنّ الأصعب تمرير‏ رسالة أ‏و فكرة ‏عبر الصمت، الذي هو بحدّ ذاته تعبير وكلام. هذا لا يعني أنّي ضد الكلام، ففي مشاريعي المقبلة، هناك كلامٌ. لكنّ الصمت يدعو دائماً إلى البحث في اللغة الجسدية، وفهم أحاسيسها.

(*) تؤدّي نسرين الراضي دور البطولة. إنّها من الممثلات الجريئات في تأدية أدوار مُتعدّدة ومُركّبة. لماذا اخترتها من بين أخريات متمكّنات من أدائهنّ في أفلام مغربية واقعية؟

ـ ‏أقول دائماً إنّ نسرين الراضي من أفضل الممثلات المغربيات في جيلها. منذ بداية عملي، كنتُ أحلم بالاشتغال معها، وحقّقت هذا بفضل منتجي. حقيقةً، كنتُ خائفاً قبل التصوير، فهذا أوّل عملٍ سينمائيّ لي، خاصّة أنّي أنطلق من لغة جديدة يصعب شرحها وبلورتها بصريّاً. ‏لكنّ نسرين سهّلت عليّ الطريق، بفضل ثقافتها السينمائية الكبيرة وحبّها للعمل وثقتها، فقدّمت لي طاقة إيجابية. أطمح إلى العمل معها مرّة أخرى. أودّ القول، من ناحية أخرى، إنّ لدينا في المغرب طاقات كبيرة لم تستغل إلى الآن، في الإخراج والتمثيل، في الجيل الجديد مثلاً. ‏بالنسبة إلى "عائشة"، ‏أردتُ الجمع بين ممثلين محترفين ووجوه جديدة. أظنّ أنّي سأواصل النهج نفسه في أعمال مقبلة.

المساهمون