دفاتر فارس يواكيم: المخرج العبقري توفيق صالح والأفلام السبعة

دفاتر فارس يواكيم: المخرج العبقري توفيق صالح والأفلام السبعة

17 ابريل 2023
اشترى حقوق "يوم قتل الزعيم" من نجيب محفوظ، لكن المشروع لم يبصر النور (أرشيف فارس يواكيم)
+ الخط -

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم.

عديدة هي أوجه الشبه بين يوسف شاهين وتوفيق صالح. كلاهما ولد في الإسكندرية (مصر) وفي السنة نفسها 1926، يوسف شاهين في شهرها الأول، وتوفيق صالح في الشهر العاشر منها. كلاهما درس في "فكتوريا كوليدج". كلاهما أصبح مخرجاً سينمائياً. كلاهما أنجز أفلاماً اعتُبرت من أبرز إنتاجات السينما المصرية. وبينما أخرج يوسف شاهين 37 فيلماً روائياً، اكتفى توفيق صالح في مسيرته المهنية بإخراج سبعة أفلام فقط. كلاهما قام بتدريس مادة الإخراج في المعهد العالي للسينما في القاهرة، حيث كنت طالباً في مطلع ستينيات القرن العشرين. بعد الحصول على البكالوريا، سافر يوسف شاهين إلى كاليفورنيا ودرس الفنون المسرحية، بينما التحق توفيق صالح بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية وتخرج سنة 1949 مجازاً في الأدب الإنكليزي. ولم يرغب صالح في دراسة الطب مثل أبيه. كان مأخوذاً بالفن السينمائي والأفلام منذ سنوات الشباب الأولى، وهذه نقطة مشتركة أخرى بين المخرجَيْن.

حصل سنة 1950 على منحة لدراسة الأدب في جامعة السوربون في باريس، وأمضى ثلاث سنوات في العاصمة الفرنسية. انتظم في الدراسة في السنة الأولى، ثم اندمج في عالم الفنون في العاصمة الثقافية العالمية. تنقّل من دار سينما إلى قاعة مسرح، ومن معرض للفنون التشكيلية إلى أمسية موسيقية، مع جولة على المكتبات وانتقاء الكتب المتخصصة في السينما. نهل من ينابيع الثقافة فارتوى، وزار استوديوهات تصوير الأفلام، وتعرّف إلى بعض التقنيين العاملين في السينما، وأتيحت له الفرصة للتدرّب على الإخراج، مع المخرج موريس كام خلال تصوير فيلم "باقة فرح" Bouquet de Joie وكان من بطولة المغنّي الفرنسي المعروف شارل ترينيه والممثلة الأرجنتينية تيلدا تامار.

وعاد إلى القاهرة في الشهر الأخير من سنة 1953 من دون الحصول على شهادة من السوربون، لكنه محمّلٌ بزاد كبير من فن السينما، جمعَه من الكتب ومن الأفلام التي شاهدها، أو التي تابع تصويرها لقطة لقطة، ومتأثرٌ بالفكر اليساري السائد آنذاك، خصوصاً عند نخبة الأدباء والفنانين. هيّأ الأمر لإخراج أول فيلم.

وضع إطار قصة ذات معالجة ماركسية. والتقى الأديب نجيب محفوظ الذي كان، إلى جانب تأليف الروايات، من أبرز كتّاب السيناريو في السينما المصرية. ونشأ تعارف بينهما سيصبح صداقة العمر. خفّف نجيب محفوظ من حدّة القصة الثورية مع الاحتفاظ بالنزعة النقدية الواقعية، وأصبحت قصة توفيق صالح صالحة للسينما بسيناريو شاركه في كتابته نجيب محفوظ وبحوار كتبه الروائي عبد الحميد جودة السحار، وأُنتج فيلم "درب المهابيل" سنة 1955، وكان من بطولة شكري سرحان وبرلنتي عبد الحميد. نال الفيلم إعجاب النقاد والزملاء المخرجين والمنتجين، وأدرك أهل السينما أن وجهاً جديداً لامعاً انضم إلى وَسَطهم. لكن ذلك لم يُسفر عن تعاقد لإخراج فيلم جديد. وكان عليه أن ينتظر أربع سنوات ليُكلّفه المنتج حلمي رفلة المشاركة في كتابة سيناريو فيلم "إحنا التلامذة" مع نجيب محفوظ ومحمد أبو يوسف، وهو الفيلم الذي أخرجه عاطف سالم، وكان من بطولة النجوم عمر الشريف وتحية كاريوكا وشكري سرحان. فيلم أعجب النقاد، واجتذب أعداداً غفيرة من المشاهدين.

وفي 1962، أتيحت لتوفيق صالح الفرصة ليخرج ثاني أفلامه "صراع الأبطال" وهو من إنتاج زميله عز الدين ذو الفقار. فضلاً عن الإخراج، شارك توفيق صالح في كتابة السيناريو مع عز الدين ذو الفقار وعبد الحي أديب ومحمد أبو يوسف. وكما فيلمه الأول، كان شكري سرحان بطل فيلمه الثاني، وإلى جانبه سميرة أحمد. وأيضاً كان من الأفلام الواقعية، إذ عالج موضوع انتشار الكوليرا في الريف المصري سنة 1947.

ساهم نجيب محفوظ في ضمّ صديقه الجديد إلى "شلة الحرافيش"، وهي مجموعة من الأدباء والفنانين يجتمعون مرة في الأسبوع في ما يشبه "النادي المخصص للأعضاء فقط". وأبرز أعضاء هذه الجماعة: نجيب محفوظ، وتوفيق صالح، والممثل أحمد مظهر، والشاعر والرسام ومسبّع الكارات صلاح جاهين، والصحافي الساخر محمد عفيفي، والمحامي عادل كامل. توفيق صالح هو الذي قدمني إلى "الحرافيش"، لا كعضو، ولكن كصديق معجب. ومن هذا الطريق نشأت الصداقة بيني وبين أحمد مظهر، والعلاقة الطيبة مع نجيب محفوظ وصلاح جاهين. وهو كان أستاذي في معهد السينما، درّسني مادة الإخراج. وكنا نُعجب بثقافة هذا الأستاذ، المخرج، وبذهنه المنفتح على كل جديد. وشرّفني توفيق صالح بعد تخرجي بأن جعلني صديقاً. وهو نصحني بأن أواصل القراءة باللغتين الفرنسية والإنكليزية، لأن الانفتاح على اللغات الأجنبية هو انفتاح على المزيد من المعارف.

ثمة ملاحظة لفتت نظري لدى تأمّلي الأفلام السبعة التي أخرجها توفيق صالح: لم يشترك "الحرفوش" أحمد مظهر في دور ما في هذه الأفلام جميعها. نجيب محفوظ ساهم في كتابة سيناريو فيلمه الأول "درب المهابيل" فقط. بعد الفيلمين الأولين، أخرج توفيق صالح ثلاثة أفلام من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، تميّزت بثلاثة ملامح. الملمح الأول يتضح في الاعتماد على روايات أدبية: "المتمردون" (1966) عن رواية بالعنوان نفسه لصلاح حافظ، وفيلم "السيد البلطي" عن رواية "زقاق السيد البلطي" لصالح مرسي، أما فيلم "يوميات نائب في الأرياف"، فهو عن كتاب توفيق الحكيم الشهير. وفي هذا الفيلم اشترك الكاتب المسرحي ألفرد فرج في وضع السيناريو مع توفيق صالح. الملمح الثاني هو مساهمة تلامذته من خريجي معهد السينما بمهمات احترافية: في فيلم "المتمردون" كان نادر جلال مساعد المخرج الأول، وفي "السيد البطي" كان مختار عبد الجواد مهندس الديكور، وفي "يوميات نائب في الأرياف" كان نادر جلال وخيري بشارة مساعدَي المخرج، وكان المصور محسن نصر، والديكور من تصميم أنسي أبو سيف. وكلّ هؤلاء أصبحوا من أعلام السينما المصرية في الإخراج والديكور والتصوير. أما الملمح الثالث، فتمثّل في أن الأدوار الرئيسية والثانوية أسندت إلى ممثلين ذوي مواهب أكيدة، وإنْ لم يكونوا من نجوم "شباك التذاكر"، ما عدا شكري سرحان الذي قام ببطولة "المتمردون"، فكل الأدوار الأخرى قام بها نجوم "المسرح القومي" وخرّيجو معهد الفنون المسرحية ومعهد السينما.

وكان لتعاون توفيق صالح المخرج مع مؤسسة إنتاج تابعة للقطاع العام نتيجة إيجابية، هي أن الجهة المنتجة لا تُدخِل أرقام الربح والخسارة في حساباتها، ولا تطالب المخرج بمراعاة السعي لضمان الإقبال الجماهيري. لكن الأمر لم يخلُ من السلبيات، وأبرزها بيروقراطية التعامل مع القطاع العام، ثم وربما قبل ذلك، تزمت الرقابة وحذرها المُبالغ به وتأخير عرض الفيلم إلى حين موافقة السلطات العليا، وهو ما أدّى إلى نفاد صبر توفيق صالح، فقرر الهجرة (السبب نفسه دفع يوسف شاهين إلى الهجرة).

سافر توفيق صالح سنة 1971، في الفترة التي هاجر فيها كثير من المثقفين اليساريين. هو انتقل إلى دمشق. وفيها أنجز فيلم "المخدوعون" (1972) عن رواية الأديب الفلسطيني غسان كنفاني "رجال في الشمس". في هذا الفيلم تعاون مجدداً مع اثنين من خريجي معهد السينما في القاهرة: مدير التصوير بهجت حيدر، ومهندس الصوت زهير الخيمي. وأدّى الأدوار كوكبة من أفضل ممثلات سورية وممثليها، ووضع الموسيقى التصويرية المبدع صلح الوادي. نال هذا الفيلم الرائع عدة جوائز عالمية سنة 1973: في مهرجان ستراسبورغ لحقوق الإنسان (فرنسا) ومن المركز الكاثوليكي الدولي (بلجيكا) وجائزة لينين للسلام في مهرجان موسكو السينمائي الدولي. وكان في السنة السابقة قد نال جائزة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج السينمائي الدولي. وقد تمتع توفيق صالح في تونس بسماع إعجاب السينمائيين والنقاد التونسيين.

سنة 1973 انتقل من دمشق إلى بغداد، أستاذاً للإخراج في كلية الفنون في العاصمة العراقية. وفي سنة 1980 أخرج آخر فيلم: "الأيام الطويلة" عن قصة عبد الأمير معلّة. وعلى الرغم من إتقان التنفيذ، لم يكن توفيق صالح راضياً عنه، ولم يأتِ على ذكره. أفلامه السابقة تناولت قضايا اجتماعية وإنسانية أو سياسية (فيلم المخدوعون اهتم بالقضية الفلسطينية). أما في الفيلم الأخير الذي يحكي سيرة حياة الرئيس العراقي آنذاك، صدام حسين، فلم يتمكن توفيق صالح من مواصلة إنجاز أسلوبه السابق.

وفي 1984 عاد إلى القاهرة، إلى قواعده القديمة في المعهد العالي للسينما. وفي القاهرة أمضى السنوات العديدة الباقية من عمره، وكانت وفاته سنة 2013.

اكتفى بالتدريس، لكنه لم يخرج فيلماً، رغم أنه كان على وشك إنجاز ذلك. لكن "على وشك" عنده تستغرق سنوات. أخبرني أنه اشترى حقوق رواية "يوم قتل الزعيم" من صديقه نجيب محفوظ. وعكف على كتابة السيناريو، وكعادته محا وأعاد الكتابة. لكن المشروع لم يبصر النور. ومن سوء الحظ أن التعاون لم يتكرر بين الصديقين: المخرج المبدع والروائي القدير.

حرصت دائماً على لقاء توفيق صالح في كل زيارة لمصر. كذلك سنحت لي فرص اللقاء في بيروت عندما كان مقيماً في دمشق، وفي العاصمة السورية كلما قصدتها، وفي بغداد، وفي باريس في ثمانينيات القرن الماضي حين كنت مقيماً فيها. عام 1986 جمعني لقاء به في باريس مصادفة. كان أخي شريكاً في مطعم لبناني في الدائرة الخامسة عشرة. ذهبت لتناول الغداء عنده، وفوجئتُ بوجود توفيق صالح هناك، وهو فوجئ بي. كان في تلك الزيارة يقيم في فندق قرب المطعم. تكررت اللقاءات خلال الأيام الثلاثة الباقية في زيارته. تجوّلنا يوماً مشياً على الأقدام من قرب الأوبرا إلى الحي اللاتيني، مروراً بحدائق اللوفر والجسر على نهر السين. قال لي: "هذا هو قلب باريس التي عرفتُها في الخمسينيات. كان النبض هنا ومركز الجذب أكثر من الشانزيليزيه. هنا المسارح وقاعات السينما والمكتبات". توقّفَ في شارع سان ميشال أمام مكتبة Gibert Jeune وتذكّر الكتب التي اشتراها منها أيام الشباب. وشاهدنا فيلم "جينجر وفريد" للمخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني، وبعد العرض أشاد بإبداعات السينما الإيطالية، خصوصاً بطابعها الواقعي. واسترجعت على مسمعه ما قاله لنا في محاضرة في معهد السينما: "الواقعية في السينما ليست حكراً على الحارات الشعبية. يمكن أن تدور أحداث الفيلم في قصر منيف. الواقعية هي صدق الموضوع. الشكل يتبع الموضوع ليناسبه. هل الباشا باشا؟ هل هو سليل أرستقراطية أم ثري حرب؟ من ديكور القصر والأثاث تعرف ذلك. كذلك ممّا يقوله في الحوار الذي يجب أن يلائم شخصيته. وإذا كان الباشا، بحسب الشخصية، أميّاً، وسمعته يقول: أنا محبط، أو مستاء، أو على قناعة... فاعلم أن خللاً أصاب الواقعية".

وآخر لقاء جمعني بأستاذي كان في الإسكندرية حيث ولد كلانا. جولة في "وسط البلد" بدأت من الساحة التي تجمع تمثال سعد زغلول وفندق سيسيل والبحر. تذكّرنا "رباعية الإسكندرية" للكاتب البريطاني لورانس داريل. وفي شارع قرب سينما مترو توقّف، وأشار إلى بناية: "هنا أقام الشاعر اليوناني كفافيس". بلغنا شارع الفلكي القريب، وأمام العمارة رقم 10 قلت: "وهنا أقام الكاتب اللبناني فارس يواكيم منذ يومه الثاني حتى السنة السابعة عشرة من عمره".

المساهمون