بيلي هوليداي: الثّمار ستبقى غريبةً إلى الأبد

بيلي هوليداي: الثّمار ستبقى غريبةً إلى الأبد

21 ديسمبر 2021
يستمد الفيلم ثقله من أداء آندرا داي لدور هوليداي (Imdb)
+ الخط -

قبل الستينيات، عقد ازدهار الأغنية السياسية في الولايات المتحدة، كانت موسيقى الجاز بمثابة نشرات أخبار متنقلة، تكشف أحلك الكوابيس المغيّبة خلف "الحلم الأميركي". في العشرينيات، "عصر الجاز"، وفي ذروة انتشار جماعات الـ كو- كلوكس- كلان (KKK)، وممارساتهم العنصرية ضد السود، أضاءت ليالي الجاز الحانات والنوادي المختلطة، التي يرتادها البيض مع السود، كثورة على قوانين الفصل العنصري المطبقة في كل مكان.

عام 1937، ألهمت صورة لرجلين أسودين مشنوقين، يرقص حولهما رجال بيض، شاعراً أميركياً يُدعى إيبل ميروبول، ليكتب قصيدة "ثمار غريبة" (Strange Fruit)، كرثاء مؤلم للأميركيين السود الذين تم إعدامهم في الجنوب.

لاحقاً، أثارت هذه الأغنية، التي تصف السود المشنوقين على أيدي البيض، والمعلقين على أشجار الحور، مشاعر بيلي هوليداي (1915 - 1959)، مغنية الجاز الأفروأميركية، التي كانت معاناتها من العنصرية واحدة من آلام كثيرة عايشتها ضمن حياتها المأساوية، لتغنيها لأول مرة على مسرح "كافيه سوسايتي" في نيويورك (1939)، ولتصبح لاحقاً الأغنية التي عجّلت برحيلها عن عمر مبكر لا يتجاوز الـ 44 عاماً.

وسط الفوضى المخيمة على الاحتجاجات التي شهدتها الولايات المتحدة، أثناء قضية مقتل جورج فلويد (بدأت في 26 أيار/مايو 2020)، عادت "ثمار غريبة"، ولكن بصوت فتاة شابة، وقفت على سطح إحدى السيارات، مطلقة صرختها ضد العنصرية، لتكون هذه الفتاة أحد مصادر إلهام المخرج لي دانييلز، ليصنع فيلمه "الولايات المتحدة في مواجهة بيلي هوليداي" (The United States Vs. Billie Holiday).

لا يتبع دانييلز في فيلمه الشكل الكلاسيكي في اقتفاء السيرة الذاتية لهوليداي، كما فعل سابقاً فيلم "السيدة التي تغني البلوز" (1972/ ديانا روس بدور بيلي هوليداي/ إخراج سيدني جيه فيوري)، بل يحاول الدخول إلى أماكن غير مستكشفة من حياتها، استناداً إلى فصل من كتاب الصحافي البريطاني يوهان هاري، "مطاردة الصرخة: الأيام الأولى والأخيرة من الحرب على المخدرات" (2015). كتبت سوزان لوري باركس (كاتبة مسرحية أميركية حائزة على جائزة بوليتزر للدراما 2002) نص الفيلم الذي يركّز على العقد الأخير من حياة هوليداي وصراعها مع مكتب التحقيقات الفيدرالي.

يبدأ الفيلم عام 1957، قبل رحيل بيلي بعامين. وعن طريق مقابلة صحافية لهوليداي مع ريجنالد لورد ديفاين (ليزلي جوردان)، نعود بالأحداث إلى عام 1947، حيث كانت بيلي في ذروة حياتها المهنية تغني "ثمار غريبة" كل ليلة تحت إلحاح جمهورها الكبير الذي كان يجتمع كل ليلة في "كافيه سوسايتي"؛ أول ملهى ليلي مختلط الأعراق في نيويورك في ذلك الوقت.

تثير الروح الثورية للأغنية مخاوف مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومفوضه هاري أسلينغر (غاريت هيدلوند)؛ فيرى فيها خطراً على حكومة الولايات المتحدة، لما تحمله من تحريض للسود على التمرد، وتأجيج لحركة الحقوق المدنية. ومع رفض هوليداي التوقف عن غنائها حتى بالقوة، يكرّس أسلينغر جهوده في البحث عن طريقة لإسكاتها إلى الأبد، ويجد ضالته أخيراً عندما يكتشف إدمانها على المخدرات.

بعد تعرضها للاغتصاب وإجبارها على ممارسة العمل الجنسي مقابل المال في سن مبكرة، تحولت هوليداي إلى المخدرات كوسيلة لقتل الألم، وأدت الصورة التي كونتها عن الرجال في مراحل حياتها المبكرة إلى انجذابها لاحقاً للرجال السيئين الذين يستغلونها.

سينما ودراما
التحديثات الحية

هذه كانت نقطة انطلاق الفيلم، إذ تم تسطيح دور هوليداي، أو ليدي داي؛ كما كانت تلقب، من خلال تقسيم السرد بينها وبين الرجال الذين عرفتهم، وساهموا في تدميرها، كل على طريقته؛ جيمي فليتشر (تريفانتي رودس) موظف الـ "إف بي آي" الأسود الذي قام أسلينغر بتجنيده للتقرب منها والتسلل إلى دائرتها المقربة، قبل أن يتورط في علاقة عاطفية معها، زوجها الأول جيمي مونرو (إريك لاري هارفي) الذي جرّها إلى الإدمان، مدير أعمالها جون ليفي (تون بيل) الذي استغلها مادياً وجنسياً، وزوجها الأخير لويس مكاي (روب مورغان).

يستمد الفيلم ثقله من أداء آندرا داي (بيلي هوليداي)، وهي أفضل ما في العمل. وبفضل دورها، حصلت على جائزة "غولدن غلوب" كأفضل ممثلة عن فيلم درامي (2021). آندرا، المشابهة لبيلي في الملامح، والتي أدت أغاني الفيلم بنفسها، مغنية محترفة، صدر لها العديد من الألبومات، ونالت عنها عدة ترشيحات لجوائز "غرامي".

استخدام اللقطات القريبة لإبر الهيروين، وهي تخترق الجلد وتصوير مشاهد العنف والجنس والتفاصيل القاسية للإدمان هي جزء من بصمة لي دانييلز مخرج فيلم "ثمينة" (2009) الحاصل على ستة ترشيحات للـ"أوسكار" ومنتج فيلم "كرة الوحش" (2001) الحائز على عدة جوائز، منها جائزة الـ"أوسكار" لأفضل ممثلة (هالي بيري)، فمن تابع أعماله السابقة يدرك أن تصوير المشاهد النافرة والمؤلمة جزء من أسلوبه.

دانييلز الذي تجمعه بهوليداي الكثير من القواسم المشتركة، من ظروف حياتية حزينة وسنوات أمضاها في صراع ضد الإدمان، لم يكن معنياً بطرح سيرة حياة بيلي هوليداي وحسب، بل أراد أن يبث من خلال الفيلم رسالة تحاكي الأحداث المعاصرة التي تمر بها الولايات المتحدة، وانعكاسات الموجات الجديدة من العنصرية.

يقفز الفيلم من حادثة إلى أخرى، من دون التركيز على حدث درامي معين. وفي هذا كله، تبقى هوليداي الشامخة على المسرح بأحمر شفاه صارخ، وزهرة غاردينيا تزين شعرها، وبحة صوت أخاذة، وهوليداي وراء الكواليس بين أدوات الحقن والبودرة البيضاء ومتاهات الإدمان والرجال السيئين، نتوه عن روحها كإنسانة، روحها الحقيقية هي الجزء الذي لم ينجح الفيلم في إيصاله.

المساهمون