بيلي هوليدي ونينا سيمون: الألم يكتب التاريخ

بيلي هوليدي ونينا سيمون: الألم يكتب التاريخ

23 يونيو 2020
بيلي هوليدي: لا أودّ أن أكون خادمةً لأحد (Getty)
+ الخط -
أن تكون الموهبة فتاة صغيرة، امرأة يافعة أو سيدة؛ لهي بحد ذاتها مسيرةٌ مضنية ومشوار شاق طويل مليء بشتّى أصناف الضغوط والانتهاكات. فما بالك، إذن، أن تكون الموهبة أنثى سوداء البشرة، تختزل إطلالتها وجعبتها الفنية تاريخاً مريراً وعسيراً من أشكال العبودية والاستغلال، ثم ألوان التمييز العنصري المؤسسي والمُمنهج، والإقصاء الاجتماعي المتوارث، المُشبع بدعوى التفوّق العرقي والتسيّد الحضاري.

ذلك ما جعل حياة الجيل الأول من مغنيّات الجاز والبلوز في أميركا القرن العشرين، أقرب إلى الأسطورة منها إلى السيرة المهنية، ليس فقط بالنظر إلى تحطيمهنّ قيود الفصل والتمييز العنصري وحسب، وإنما أيضاً، تجاوز نطاقاته الحتمية من فقر وفاقة، ومن انعدام، إلى تفاوت الفرص في أحسن الأحيان، ثم الاتهام المُتجدد بالاستيلاء الثقافي، لتمسي الموسيقى نفسها مجالاً من مجالات الإقصاء، وفي ذات الوقت، فضاءً للتمرد ضده والثورة عليه.

لم تكن رُغبة نينا سيمون Nina Simone 1933-2003 الحقيقية غناء البلوز وعزف الجاز، وإن تشرّبت أصوله منذ أن كانت طفلة صغيرة تُغني في كنائس ولاية شمال كارولاينا، وإنما حُلمها في الأساس كان أن تغدو عازفة بيانو، تؤدي الموسيقى الكلاسيكية العالمية، كأعمال مؤلفها المُفضل باخ، وغيره من الأساطين الكلاسيكيين.
بيلي هوليدي Billie Holliday 1915 - 1959 بنت الأحياء الفقيرة من مدينة فيلادلفيا، لم تجتز صف الدراسة الخامس. في أوّلِ القرن الماضي، تجدُ بنتٌ سوداء نفسها خارج المدرسة، وأمام خيارين قلّما هناك ثالثٌ لهما؛ إما الخدمة في المنازل، أو العمل في الملاهي. مقتت هوليدي تنظيف بيوت البيض. عُرف عنها قولها: "لا أودّ أن أكون خادمةً لأحد". لذا، فضّلت احتراف حياة السمر والسهر في ليالي أحياء مدينة بلتيمور، تُغني للزبائن وبائعات الهوى برفقة عازف بيانو النزل أو الحانة.

في أول ظهور لها أمام جمعٍ من المستمعين في كنيسة مجاورة، أُقصيت أسرة سيمون، بموجب قواعد الفصل العنصري المعمول بها وقتئذٍ، إلى صف جلوسٍ أخير خاصٍ بسود البشرة. ما كان من الصغيرة سيمون، بنتُ الاثنتي عشرة سنة، إلا وأن احتجّت بأن رفضت العزف ما لم يُسمح لأهليها بتبوّؤ الصفوف الأمامية، المخصصة للبيض، فكان لها ما أرادت، وتابعت الأداء.



أواخرَ الثلاثينيات، كان عازف الكلارينيت وقائد الفرق آرتي شو Artie Shaw 1910-2004 يبحث عن عنصر "مُثير شهواني"، بحسب تعبيره، يجذب مزيداً من الضوء إلى فرقته الموسيقية الصاعدة، فاقترحت عليه المغنية كارمن مكريه 1922- 1994 Carmen McRae أن يأتي بمُغنّية زنجية Negro، فضمّ هوليدي لتكون أول مُغنية سوداء تعزف برفقتها فرقة من البيض. الأمر أثار عديدَ المتاعب؛ ففي جولات الجنوب الأميركي، كان يُطلب من شو إخفاء هوليدي في المنصة الخلفية. حين غنّت، كان يُقاطعها المُستمعون المستاؤون من البيض، يكيلون لها الإهانات والكلام البذيء، ما فرض على شو استبدالها مرّات بالمغنية بيضاء البشرة هيليت فورست Helen Forest 1917-1999. كل ذلك، جعل من مشاركة هوليدي مهمة شاقة، أفضت في الأخير إلى تركها الفرقة سنة 1938.

في سيرها الحثيث سعياً إلى تحقيق حلمها بأن تُصبح أوّل عازفة بيانو كلاسيكي أميركية من أصول أفريقية، تقدّمت سيمون إلى منحة معهد "كورتِس" Curtis Institut المرموق في مدينة فيلادلفيا، وذلك بهدف متابعة الدراسة الموسيقية الأكاديمية. على الرغم من أدائها الباهر خلال امتحان القبول، إلا أن قبولها قوْبل بالرفض؛ فقط، للون بشرتها. في عام 2003 وقبيل رحيلها ببضعة أيام، قامت إدارة كورتِس بمنح سيمون شهادة الدبلوم بدرجة شرف.

"ها أنا أخيراً في كارنيغي، لكن ليس لأعزف موسيقى باخ"، كتبت سيمون في رسالة بعثت بها إلى أهلها، تُنبئهم بأول اعتلاءٍ لها خشبةَ صالة كارنيغي Carnegie Hall في مدينة نيويورك، المسرح الأشهر والأعرق في الولايات المُتحدة، خصوصاً في الموسيقى العالمية الكلاسيكية، بيد أن كارنيغي لم تكن لتستضيف سيمون سوى لتعزف الجاز وتغني البلوز، فلا تعتلي خشبتها إلا من خلال إطار موسيقي ضيّق، تنميطي أحادي، يخدم الواجهة الثقافية للفصل العنصري.

واحدة من روائع الغناء وبوادر الاحتجاج الفنّي المبكرة على الإعدامات العشوائية التي ظلّت تطاول السود الأميركيين مطلع القرن المنصرم في حوض الميسيسبي، جنوب الولايات المتحدة، أصدرت بيلي هوليدي سنة 1939 واحدة من أعظم أغاني التاريخ وأشدها قوةً تعبيرية بعنوان Strange Fruit (ثمرة غريبة) تتحدث من خلالها بلغة شعرية مجازية وأداء درامي تمثيلي، اعتُبرَ وقتها ريادياً فريداً في حدود الجاز الماجن. قدمّت هوليدي أغنيتها على عدة مسارح ونوادٍ في نيويورك. وعندما عُرض على شركة كولومبيا Columbia تسجيلها، رفضت الأخيرة خوفاً من إثارة مضامينها السياسية.



إثر التفجير الإرهابي الذي نُسب إلى جماعة كو كلوكس كلان Ku Klox Klan العنصرية واستهدف كنيسة للأفارقة الأميركيين في مدينة بيرمنغهام بولاية آلاباما وراح ضحيته أربع فتيات فيما جُرح 22 آخرون، تفجّرت في نينا سيمون طاقة إبداعية ستمدّ داخلها بدفقٍ شعوري أن لحياتها هدفاً، ولسيرتها الذاتية والمهنية قيمة تتجاوز نطاق الترفيه Entertainment الضيق الذي حدّ وجود الفنان الأسود ودورَه في المشهد الثقافي الأميركي. أما حولها، وفي المحيط الاجتماعي المُلتهب، فقد شحنت سيمون بأغانيها Mississippi Goddam (التي أتت رداً مباشراً على مجزرة بيرمنغهام) حركة الحقوق المدنية Civil Rights Movement، فاعتمدت الأغنية نشيداً لها، ورددها السائرون خلف زعيم الحركة التاريخي مارتن لوثر كينغ في تظاهرة مونتغومري الشهيرة سنة 1965.
بالنسبة إلى كل من هوليدي وسيمون، وغيرهما من أعلام الغناء الأفرو-أميركيين مطلعَ القرن العشرين، كان الجاز بمثابة الصوت والسوط. كان لهنّ الملاذ، إذ إليه التجأن، وبه وجدن آفاقا حرّة للتعبير عن وجع يزيد عمره عن الأربعمائة عام من الاستعباد، ثم الاستغلال والاضطهاد، المستمر إلى اليوم وإن بأشكال أكثر حداثة وعصرية. كان أيضاً سلّم نجاة وحيد صعدْنه بدفعٍ من مواهبهنّ هرباً من الفقر وغياب العدالة الاجتماعية.
في ذات الوقت، شكّل الجاز نطاقاً ثقافياً للفصل العنصري، أرادت له مؤسسات القوة في المجتمع أن يقولب الفن الأفرو أميركي ضمن مُنتج ترفيهي تنميطي لا يُصب في مُحيط العالمية. إلا أن عبقرية كل من سيمون وقبلها هوليدي، كان في مقدورها ليس فقط أن تكسر القالب وتخرق جدار الفصل، فتحوّل الجاز إلى فن راقٍ سيُؤسس في ما بعد هوية أميركية عابرة للعرق، بل كان في مقدورها أيضاً أن تجعل من الجاز أداة تعبير سياسي وصوت ثورة اجتماعية.
في كلمة له خلال مراسم دفن جورج فلويد، الرجل الأسود الذي قضى خنقاً تحت ركبة رجل شرطة أبيض في مينيابوليس شهرَ مايو/ أيار الماضي، مما أجج حركة احتجاج عالمية عارمة، قال القس والناشط الحقوقي آل شاربتون Al Sharpton إن "ما جرى لفلويد قد حوّله من حجرٍ مرفوض إلى حجر زاوية". كذلك فعلت سيمون، ومن قبلها هوليدي.
فقد حوّلن الرفض والإقصاء، بالعزف والغناء، إلى قوة تُغيّر الواقع وتُحدّد وجهة المستقبل، وتكتب التاريخ من وجهة نظر الخاسر، لا المُنتصر.

المساهمون