النقد السينمائي في زمن المنصّات: لا تحلّ التقنية والآلة محلّ الفن

النقد السينمائي في زمن المنصّات: لا تحلّ التقنية والآلة محلّ الفن

05 نوفمبر 2021
مات دايمون ورديلي سكوت ترويجاً لـ"المرّيخي": مقاومة الإساءة (جايزن كامْبَنْ/ Getty)
+ الخط -

غيّر الشاب، الذي كان يبيع نسخ الأفلام المقرصنة في مقاهي الدار البيضاء، سلعته. صار يبيع الملابس الداخلية. احتفظ بمهنته بائعاً متجوّلاً، لكنّه غيّر سلعته بسبب الوباء ومنصّات المُشاهدة. حالياً، انقرض باعة الأفلام المقرصنة، القديمة والجديدة، على أرصفة مدن المغرب.

كان طلب نسخة فيلم قديم، وانتظار الحصول عليه، يجعلان الفرجة حدثاً كبيراً. الآن، صار يُمكن شراء فيلم بكبسة زر، في أيّ لحظة. صار إيقاع المُشاهدة أسرع. لهذا تبعات على الكتابة النقدية وعمقها.

شاهدتُ فيلماً جديداً مُبهراً على منصّة عرض أفلامٍ جديدة. سجّلت ملاحظات. بعد ساعات، حرّرتُ الملاحظات في مقالة. واجهتُ صعوبة في تحديد زاوية مقاربة، رغم فحص الفيلم بمفاهيم عدّة. اتّضح أنّ هذا ليس فيلماً عظيماً، بل بسيط فنياً ومتفوّق تقنياً. ظهر كتحفة بعد الخيبة الناتجة من مُشاهدة أفلامٍ كثيرة جديدة، تشبه الوجبات السريعة. أفلام فيها مؤثرات بصرية وصوتية شديدة، لم تُصنع عند التصوير، بل في حِيَل تقنية في مرحلة ما بعد الإنتاج.

لا تصنع حِيَل المونتاج فرجة حقيقية. الحِيَل التقنية ووفرة الأفلام الجديدة وغزارتها تسبّبت في افتقاد المسافة الزمنية بين مُشاهدة وأخرى. هذا يضعف الكتابة النقدية.

لتوضيح ما سبق، هذه بَرهنةٌ كتبتُها عن أفلامٍ من نوع مختلف:

كيف تعيد الأفلام استخدام وظائف فلاديمير بروب في كتابه "مورفولوجية الخرافة"؟

في "إي تي" (1982) لستيفن سبيلبيرغ، تزور مركبة فضائية الأرض. في لحظة خطر، تغادر تاركةً مخلوقاً فضائياً من أفرادها على الأرض. في "المرّيخي" (2015) لريدلي سكوت، تغادر مركبة أرضية المرّيخ فجأة، خوفاً من عاصفة، وتترك أحد روّادها على تربة حمراء. هكذا عاش البطلان النأي والغياب، فنهضا لمقاومة الإساءة. هنا، يكتشف المتفرّج عوالم جديدة.

تتقارب يدا المخلوق الفضائي والطفل في فيلم سبيلبيرغ. هذا يُذكّر بلوحة "يد الله ويد آدم" لمايكل أنجلو. في أفلامٍ كهذه، شوهدت في ما يكفي من الوقت، يظهر أنّ هناك، في كلّ مشهد، سرّاً يبغي المتفرّج اكتشافه. أثناء اكتشافه، يظهر أفق جديد، كمحاولة البطل زراعة البطاطس في المرّيخ. هكذا يتسلسل التشويق.

هذه مقارنات تحقّقت في زمن مُشاهدة فيلم واحد أسبوعياً، في صالة سينما. لكنْ، حالياً، مع منصّات عدّة، يمكن مُشاهدة أكثر من فيلمٍ في اليوم، أو الانتقال بين أفلامٍ مختلفة. صار الإيقاع أسرع في المُشاهدة، وهذا مُضرّ بالكتابة. فرض الوباء تغييراً كونياً في امتداده، وعميقاً في أثره، وسريعاً في إيقاعه على البشر، وعلى رواج الأفلام.

 

 

يحتاج النقد التطبيقي إلى معاينة أفلامٍ جيدة، تحرّض على الإدلاء برأي متأتٍ من معرفة وخبرة في المُشاهدة. لحظة المُشاهدة لحظة تخلّصٍ من الروتين اليومي. لحظة تخييل وسفر ضرورية كلّ يوم. لا توفّر الأفلام كلّها هذه الرحلة للمتفرّج. حين تغيب كثافة التخييل ودقّة التفاصيل، يصعب تكوين رأي تقييمي يعبّر عن موقف وتذوّق. تحتاج ممارسة النقد السينمائي إلى شجاعة كبيرة في القول، مع تجنّب المعلومات التي تقدّمها "ويكيبيديا". النقد ضروري للفرز الفني بين الأفلام.

من أين يستمدّ النقد السينمائي قوّته؟ يستمدها من كونه عرضاً وتفسيراً لأثر المُشاهدة في هذه اللحظة. أثر ترك بصمة على خيال المتلقّي ووجدانه. مهما كان تاريخ صدور الفيلم، فالتعليق عليه ثمرة المُشاهدة هنا والآن. كلّ تعليق نقدي، يحمل بصمة زمن إنتاجه، يفسّر للمتلقّي ما يعيشه. لا تملك الأفلام كلّها هذه الطاقة الدلالية، خاصة تلك التي تكتب وتنتج وتعرض بسرعة في منصّات المُشاهدة. في ظلّ هذا الوضع، تزداد الحاجة إلى النقد السينمائي.

"النقد ليس مُلحقاً سطحياً بالأدب، بل قرينه الضروري"، يقول تزفيتان تودوروف في "نقد النقد". تنطبق الحاجة إلى القرين المُفسّر على السينما أيضاً. في الكتابة النقدية، يطلب فاولر روجر "تجاوز وصف الأنساق إلى تفسير وتأويل وتعليل الاحتياجات الاجتماعية والتواصلية، التي جاء النص (الفيلم) ليخدمها" (النقد اللساني). يكشف النقد الأنساق ومعنى الصُوَر واللقطات، كما في المقارنة بين فيلمي سبيلبيرغ وسكوت. يُشخّص الشحنة العاطفية والأيديولوجية في اللقطات. يبرز قدرة الطاقة التخييلية لفيلمٍ على التفكير خارج حدود الراهن، وعلى كشف ما تُحيل إليه اللقطات، وتتناص معه.

لا بُدّ للعمل الفني من قرين تأويلي. كي يتطوّر هذا القرين، يحتاج النقد التطبيقي إلى معاينة أفلامٍ جيدة، فيها صُوَر تولّد معنى. حينها، يجد الناقد ما يُعلّق عليه. أما حين تكثر وتتوالى الأفلام المتشابهة، لا يجد الناقد ما يكتبه، ويكون أمام خيارين: الأول، أنْ يشرُد إلى التنظير واستظهار معرفته بأفلامٍ قديمة. ما أصعب الكتابة عن أفلامٍ جديدة، وما أكثر السخاء في وصف أفلامٍ قديمة، خاصة أفلام الراحلين. الثاني، أنْ يقطع الناقد من لحمه ليُرقّع الفيلم الرديء، أو يحرق قصّته بسردها، بدل التعليق على أسلوبها، أو تحميل اللقطات تأويلات من خارجها.

لا جدوى من الكتابة على الأفلام الضعيفة دلالياً، حتى لو كانت متقنة تكنولوجياً. لا يُمكن للتقنية والآلة أنْ تحلّا محلّ الفنّ، ومحلّ إنتاج معنى يُضيء الحياة. حينها، يجد الناقد ما يُعلّق عليه. يجد ما يُؤّوله.

المساهمون