المنتخب الفنلندي... بغضّ النظر عمّن يركل الكرة

المنتخب الفنلندي... بغضّ النظر عمّن يركل الكرة

12 يونيو 2021
تحولت كرة القدم إلى أداة لترسيخ ثقافة الاندماج في المجتمعات الأوروبيّة (Getty)
+ الخط -

للرياضة دائماً، وبخاصّة كرة القدم، تأثيراتها في السياسة، والعكس صحيح. مهما ادعى البعض، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، أنّ اللعبة لا ينبغي أن يكون لها أيّة علاقة بالسياسة. قد يكون التأثير مباشراً، وقد لا يكون كذلك، لكنه موجود على كل حال، بصرف النظر عن كونه إيجابياً أو سلبياً. فهي تارة تكون ميداناً للاحتجاج السياسي بالنسبة إلى تيارات اليسار، وطوراً تغذي النعرات القوميّة على أقصى اليمين.. وبين هذا وذاك، تحولت الرياضة الأكثر شعبيّة في العالم، إلى أداة ناعمة لترسيخ ثقافة الاندماج في المجتمعات الأوروبيّة، في ظلّ ما يُسمى "أزمة الهجرة".
في فنلندا، البلد الإسكندنافي الصغير البالغ تعداد سكّانه 5.5 ملايين نسمة، ستُجرى غداً الأحد انتخابات محليّة، تُرجَّح فيها كفة اليمين المتطرف، غداة أول مباراة للمنتخب الوطني ضمن بطولة كبرى في تاريخه، أمام الدنمارك في بطولة "يورو 2020".

الملك والضخم
ياري ليتمانين وسامي هيبيا... هذان الاسمان أفضل إجابة يمكن أن تحصل عليها من أكثر الناس متابعةً ودرايةً بعالم كرة القدم، إذا ما طرحت عليه السؤال الآتي: ماذا تعرف عن كرة القدم الفنلنديّة؟ تشتهر البلاد بصدارتها وتقدّمها في مؤشرات "السعادة"، و"حرية الصحافة"، و"جودة التعليم"، و"المساواة بين الجنسين" و"مكافحة الفساد" و"البيئة الطبيعيّة" و"التنمية البشريّة"، لكنها تظلّ بلاداً هامشية في عالم كرة القدم، سواء على صعيد منتخبها وطني، أو بالنسبة إلى مشاركة أنديتها المحلية في المنافسات الأوروبيّة.
حقّق الثنائي، المعروف بلقبَي "الملك الفنلندي" و"الفنلندي الضخم"، على التوالي، الخماسيّة التاريخيّة مع ليفربول عام 2001. وهما الفنلنديان الوحيدان اللذان فازا ببطولة دوري أبطال أوروبا؛ هيبيا مع ليفربول الإنكليزي عام 2005، وليتمانين مع أياكس الهولندي عام 1995. وكان الأخير قريباً من الحصول على جائزة الكرة الذهبيّة آنذاك، بعد أدائه المميز وفوزه بأربعة ألقاب أخرى مع ناديه في العام نفسه، لكن السماح للتصويت للاعبين المولودين خارج الاتحاد الأوروبي، جعل الجائزة تذهب في النهاية إلى النجم الإيبيري جورج وياه.

ياري ليتمانين (لورنس غريفيث/Getty)

يمكن أن نطرح سؤالاً آخر: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر كرة القدم في سياسة "أرض الألف بحيرة"؟ الإجابة ينبغي أن تكون سلبيّة، ليس لأن كرة القدم لا تأثير لها بالسياسة، بل لأن هوكي الجليد كانت وما زالت، على مدار سنوات طويلة، الرياضة الأكثر شعبيّة في البلاد، فيما تأتي شعبيّة كرة القدم في مركز متأخر. وهي، أي الهوكي، أكثر رياضة تتفوق فيها البلاد دولياً، حيث يصنف كلّ من المنتخب الرجالي والنسائي لهذه اللعبة الجليدية، في المركزين الثاني والثالث عالمياً، على التوالي.
مع هذا، ينبغي أن يتغير كلّ شيء عندما يشارك المنتخب الوطني لأول مرة في تاريخه في بطولة كبرى. على سبيل المثال، عندما زار رئيس الوزراء السابق أنتي رين فرنسا خلال خريف 2019، أهدى الرئيس إيمانويل ماكرون هدية صغيرة، هي قميص هدّاف الفريق تيمو بوكي، الذي أصبح منذ تلك اللحظة رمزاً وطنياً، حتّى قبل أن تضمن فنلندا تأهلها بالفعل إلى نهائيات بطولة الأمم الأوروبية. اليوم، مع مشاركة منتخب نسور البوم الأوراسيّة في البطولة، سيصبح بوكي اسماً لا يقل أهمية عن سابقيه. وكلّ الآمال صارت معقودة على سانتا كلوز الكرة الفنلنديّة، في محاكاة "المفاجأة الإسكندنافيّة"، التي قام بها المنتخب الآيسلندي في النسخة السابقة، عندما أقصى إنكلترا ووصل إلى ربع النهائي، خلال أول مشاركة له في تاريخ البطولة.
 
تاريخ الحرب الأهليّة وكرة القدم
بالرجوع إلى الوراء، كانت كرة القدم الفنلنديّة أكثر التصاقاً بالسياسة، مما هي عليه اليوم، في بداية استقلالها عن الإمبراطوريّة الروسيّة، باعتراف الحكومة السوفييتية الجديدة، في أعقاب الثورة البلشفيّة. لكن الحالة لم تكن وليدة الاستقلال نفسه، بل ما أعقب ذلك من حرب أهليّة، بين الحركة العماليّة المدعومة من السوفييت، والقوات الحكوميّة المدعومة من الإمبراطوريّة الألمانيّة.
انتهت الحرب في أقل من أربعة أشهر، بين "فنلندا الحمراء" و"فنلندا البيضاء"، لكن الانقسام السياسي استمر لوقت طويل، بعدما رفض الاتحاد الفنلندي للجمباز والرياضة جميع الأندية والرياضيين الذين شاركوا مع الجانب الأحمر؛ ولهذا ذهب الحُمر إلى تأسيس الاتحاد الفنلندي لرياضات العمال، باعتباره اتحاداً موازياً للبيض، وأسسوا بطولاتهم الخاصة بهم. وبينما كان الاتحاد اليميني يبعث منتخبه للمشاركة في أولمبياد ألمانيا النازية عام 1936، كان الاتحاد اليساري يداوم على المشاركة في البطولة الموازية "سبارتاكيدا" التي ينظمها الاتحاد السوفييتي في دول الكتلة الشرقية.

انتهت الحرب بين "فنلندا الحمراء" و"فنلندا البيضاء"، لكن الانقسام السياسي استمر، فرفض الاتحاد الفنلندي للجمباز والرياضة جميع الأندية والرياضيين الذين شاركوا مع الجانب الأحمر

كلّ شيء كان قد انتهى مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، ونظم الحُمر والبيض معاً أولمبياد هيلسنكي عام 1952، ولكن كلّ المحاولات في التأهل إلى بطولتي كأس العالم وكأس الأمم الأوروبية باءت بالفشل. في عام 1996، حاولت فنلندا محاكاة "المفاجأة الإسكندنافية" الأكثر نجاعة، من خلال الاستعانة بالمدرب الدنماركي ريتشارد مولر نيلسن، الذي فاجأ الجميع بفوزه مع منتخب بلاده بالبطولة الأوروبيّة عام 1992، لكن الفشل كان مرادفاً لأحلام الفنلنديين في بلوغ نهائيات مونديال 1998 ويورو 2000.
 هيمنة النساء
عندما شكّلت (أصغر رئيسة وزراء في العالم) سانا مارين، حكومتها في أواخر عام 2019، أشار البعض إلى انحراف الحكومة عن مبدأ المساواة بين الجنسين. لكن هذه المرة، على غير العادة، كان المقصود بعدم المساواة قلة تمثيل الرجال، وليس النساء، لأن التشكيلة الحكومية شهدت توزير 12 امرأة مقابل سبعة رجال فقط على رأس الوزارات الأقل أهمية.
كان الأمر مجرد مفارقة. لكن الحقيقة هي أن الائتلاف الحاكم مكون أساساً من خمسة أحزاب تتزعمها نساء، وطبيعة النظام الفنلندي تفرض وجود رؤساء الأحزاب الحاكمة على رأس الوزارات السياديّة، بما في ذلك المالية والداخلية والعدل والتعليم. إلى جوار حقيقة أخرى مفادها أن النساء في فنلندا منذ حكومة بافو ليبونين الثانية، أواخر القرن الماضي، شغلن مناصب وزاريّة بالتساوي مع الرجال.
ليس الأمر غريباً بالنسبة إلى البلاد التي كانت أول بلاد تمنح حقّ الترشح للنساء في عام 1907، الأمر الذي انتهى في حينه إلى حصول تسع عشرة امرأة على مقاعد داخل البرلمان، ما عادل قرابة عُشر المجلس التشريعي المكون من مئتي مقعد. قبل أن يصل تمثيل النساء في البرلمان الحالي إلى قرابة النصف؛ أربعة وتسعين امرأة، من بينهن رئيسة البرلمان آنو فيهفيلانين.

المنتخب النسائي عام 2013 (كريستوف كوبسل/Getty)

تعكس الهيمنة الأنثويّة على السياسة الفنلنديّة الصورة الحقيقيّة لواقع كرة القدم في البلاد: سبقت النساء الرجال بستة عشر عاماً في الوصول إلى نهائيات كأس الأمم الأوروبيّة، وصنعن المفاجأة بوصولهن إلى نصف النهائي، واختيرت الفنلنديّة آن ماكينين أفضل لاعبة في نسخة 2005. آنذاك، وصل المنتخب النسائي إلى المركز السادس عشر عالمياً بحسب تصنيف الفيفا، وحافظ على مركزه بين أفضل عشرين منتخباً نسائياً. فيما يصنف منتخب الرجال عادة بعد المراكز الخمسين الأولى، باستثناء فترة قصيرة عام 2007 عندما وصل إلى المركز السادس والثلاثين عالمياً، تحت قيادة المدرب الإنكليزي روي هودسون.

دمج المهاجرين والمهاجرات
في مطلع الشهر الماضي، فاجأ الاتحاد الفنلندي لكرة القدم الجميع، من خلال مبادرته بتقديم "حجاب رياضي" قابل للتمدد، بشكل مجاني، لأيّ لاعبة كرة قدم تريد أن تتحجب. خطوة تهدف إلى جذب تنوّع أكبر من اللاعبات، وإشراك المهاجرات في الأندية الرياضيّة، لكي تكون "كرة القدم في متناول الجميع" وفق مديرة تطوير كرة القدم النسائيّة في الاتحاد هايدي بيلاجا.
قبل عامين، أشرفت بيلاجا على إعادة تسمية "دوري السيدات" إلى "الدوري الوطني"، باعتباره اسماً محايداً جنسياً، ويمثل تغييراً ثقافياً، لأن "اسم اللعبة هو كرة القدم بغضّ النظر عمّن يركل الكرة". إلى جوار مساواة أجور ومكافآت لاعبات المنتخب الوطني النسائي بنظرائهم في المنتخب الرجالي. وكلها خطوات طموحة في "تطوير مجتمع أكثر مسؤوليّة ومساواة"، وتسعى إلى جعل كرة القدم الرياضة الأكثر شعبيّة للإناث بحلول عام 2027، وهو العام الذي تأمل فيه فنلندا استضافة مباريات كأس العالم جنباً إلى جنب مع بقية دول الشمال – السويد والدنمارك والنرويج وجزر ألفارو وآيسلندا.
على الجانب الآخر: بموازاة النبوغ الكروي، بما في ذلك الفوز بثنائيّة نظيفة على بطلة العالم فرنسا في أرضها، يعبّر المنتخب الرجالي عن نفسه سياسياً، سواء بشكل جماعي من خلال الوقفات الرمزية المناهضة للعنصريّة والداعمة لحركة "حياة السود مهمة"، أو عبر لسان قائده تيم سبارف الذي يتعامل مع عدة قضايا تراوح بين حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين إلى تغير المناخ، باعتباره مدوّناً وكاتب عمود منتظم في جريدة "بوهيالاينين".

إعادة تسمية "دوري السيدات" إلى "الدوري الوطني"، باعتباره اسماً محايداً جنسياً، ويمثل تغييراً ثقافياً

سيقود سبارف، الذي يعتقد أن "الفرق التي تضم أشخاصاً من خلفيات ووجهات نظر مختلفة تحقّق نتائج أفضل"، مجموعة مكونه من ستة وعشرين لاعباً في نهائيات بطولة الأمم الأوروبية، من بينهم أربعة لاعبين من أصول أفريقية، سواء من جهة الأب أو الأم، أبرزهم صخرة خط الوسط غلين كامارا ذو الأصول السيراليونية. وسيشكل تفوقهم مع المنتخب، دون شك، موقفاً محرجاً بالنسبة إلى أحزاب اليمين المتطرف المناوئة للهجرة، على غرار أزمة اليمين المتطرف الدائمة في فرنسا، إذ في كلّ مرة يحقّق فيها "منتخب الديوك" كأس العالم يكون الفضل لعدد كبير من أبناء المهاجرين السود والمسلمين والعرب. كيف تقنع التيارات القوميّة المتشددة الناخبين الآن بأن ليس من المهاجرين أبطال وطنيون مثل بول بوغبا ونقولو كانتي وزين الدين زيدان؟
كرة القدم سلاح ذو حدّين، لكن في الحالة الفنلنديّة، يبدو أنها ستكون أداة في يد الطبقة السياسيّة السائدة حصراً، في مواجهة صعود اليمين المتطرف والمنظمات النازيّة في البلاد، بما ستحمله اللعبة، خلال السنوات القادمة، من قيم المساواة والاندماج ومكافحة العنصرية.

المساهمون