"اقتناص اللحظة" في الثنائيات

"اقتناص اللحظة" في الثنائيات

11 أكتوبر 2023
من لوحات ديفيد هوكني المعروضة في "اقتناص اللحظة" (تيموثي إيه. كلاري/ فرانس برس)
+ الخط -

مثّل ظهور التصوير الفوتوغرافي، خلال القرن التاسع عشر، انعطافة مهمة في التاريخ الحديث، كما كان له تأثير عاصف على عالم الفن. بعد اختراع الكاميرا، وجد الرسامون أنفسهم فجأة في مواجهة منافس جديد ومُبهر، بعد أن كانوا في السابق المسجلين الوحيدين للحظات الزمن. كانت هناك مخاوف بالطبع من اندثار الرسم وحلول الصورة الفوتوغرافية كبديل له، خاصة أنها تحاكي الواقع وتمثله على نحو أكثر دقة وكمالاً. ولكن، على خلاف ما كان متوقعاً، فقد ساهمت الكاميرا في تطوير الصياغات البصرية للفنانين، ومثلت حافزاً لاستكشاف طرق جديدة للتعبير وإعادة التفسير.
"اقتناص اللحظة: رحلة عبر الرسم والتصوير الفوتوغرافي"، هو عنوان المعرض الذي يستضيفه حالياً "تايت مودرن غاليري" (Tate Modern)، في لندن من أجل تسليط الضوء على هذه الانعطافة الفارقة في تاريخ الفن. يلفت المعرض الانتباه للتفاعل المثمر بين وسيلتين فنيتين مختلفتين ظاهرياً، وكيف أثرتا وتطورتا معاً مع مرور الوقت. يضم المعرض أعمالاً متعددة في الرسم والتصوير الفوتوغرافي لعدد كبير من الرسامين والمصورين البارزين، بينهم بيكاسو وآندي وارهول وديفيد هوكني، وبين الأعمال المعروضة أيضاً عمل للفنان السوري الراحل مروان قصّاب باشي.
حتى منتصف القرن التاسع عشر، كان الرسم قاصراً على التمثيل المباشر للطبيعة والأشخاص، غير أنه سرعان ما اتخذ مساراً مختلفاً. بظهور الفوتوغرافيا، نشأت المدارس الفنية التي سعت إلى تجاوز هذا التمثيل المباشر بالبحث عن حلول بصرية جديدة. تعمقت هذه الحلول في العديد من التفاصيل المتعلقة بالرسم، من الشكل وطبيعة المنظور والإضاءة، وحتى مفهوم الفن نفسه كوسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار، وكأداة لطرح التساؤلات. يضم المعرض أمثلة بارزة على هذا التحول الحاد الذي طرأ على ممارسات الفنانين الحداثيين بعد عقود قليلة من ظهور الفوتوغرافيا. من بين هذه الاتجاهات، تبرز التكعيبية كأحد أهم المدارس الفنية في القرن العشرين، هذه المدرسة التي فككت الواقع إلى أشكال هندسية بدلاً من المعالجة المباشرة والدقيقة له.
يعد بابلو بيكاسو من بين أبرز ممثلي هذه المدرسة الفنية المهمة، ويضم المعرض عددا من لوحاته التكعيبية. يتم عرض لوحات بيكاسو إلى جانب صور فوتوغرافية التقطها الفنان الياباني البارز هيروشي سوجيموتو، ما يسلط الضوء على أوجه التشابه بين وجهات نظر التكعيبية وقدرة الكاميرا على تجميد لحظة واحدة من الزمن. بين الأعمال المشاركة أيضاً، لوحات الفنانة البريطانية باولا ريغو، التي استخدمت الرسم لاستكشاف العقل الباطن. تتناقض أعمال ريغو هنا مع الأعمال المباشرة للمصور الكندي جيف وول، الذي يشاركها مساحة العرض نفسها. هذا التجاور المتعمد لأعمال وول وريغو يبرز لنا مدى التنوع في أساليب التعبير الفني واختلافه من وسيط لآخر.
إلى جانب هذه الاتجاهات الفنية التي تعمدت الابتعاد عن تمثيل الواقع بدقة تجنباً للمحاكاة الفوتوغرافية، ثمة اتجاهات فنية أخرى سعت بقوة إلى الاستفادة من كلا الوسيطين أو المزج بينهما. من بين الأعمال الممثلة لهذا التوجه، تبرز لوحات الفنان الأميركي آندي وارهول. يمثّل هذا الأخير نموذجاً لمدرسة البوب آرت التي جمعت بين الرسم والفوتوغرافيا والكتابة، وغيرها من مظاهر الثقافة الشعبية. تلاعبت مطبوعات وارهول التي أنتجها عن طريق الشاشة الحريرية بمفهوم الإنتاج الضخم وانحازت إلى الثقافة السائدة في عصرها.
من بين أهم الفنانين الآخرين الذين جمعوا في أعمالهم بين الرسم والفوتوغرافيا، يأتي الفنان الألماني البارز غيرهارد ريختر، وهو واحد من أهم الفنانين الألمان في القرن العشرين.

مثلت أعمال ريختر الواقعية واهتمامها المذهل بالتفاصيل تحدياً لتصورنا للواقع، إذ غالباً ما تطمس هذه الأعمال الخطوط الفاصلة بين المرسوم والمصور. يجمع المعرض في مساحة واحدة بين أعمال ريختر والصور البانورامية شديدة الوضوح التي التقطها المصور الألماني أندرياس غورسكي للمناظر الطبيعية الشاسعة والعمارة وتعقيدات المدن الحديثة.
يقدم معرض "اقتناص اللحظة" حواراً نادراً بين الرسم والفوتوغرافيا، وكيف تحدى ظهور الكاميرا عالم الرسم وأغناه، ما أدى إلى أشكال جديدة من التعبير الفني. يظهر هذا التجاور بين كلا الوسيطين كيف تم استخدام الفُرشاة والعدسة معاً، ليس فقط لالتقاط اللحظات الزمنية، ولكن لإعادة تفسيرها وتفكيكها.

المساهمون