آندي وارهول: فن "تسليع" الفن

آندي وارهول: فن "تسليع" الفن

05 نوفمبر 2020
كانت مارلين مونرو بدايته في العمل على صور سلسلة من المشاهير (Getty)
+ الخط -

ما من فنان استطاع تسليع الفن المعاصر وصنع أيقونات من اللاشيء كما فعل آندي وارهول، ذو الأصول التشيكية. الفنان المولود عام 1928 في بيتسبرغ، بنسلفانيا، لأبوين مهاجرين من جبال الكاربات، أو ما يُعرف اليوم بشرق سلوفاكيا، عرف منذ بداياته كيف يشق طريقه وسط الطبقة العليا للمجتمع الأميركي من فنانين وأثرياء ومشاهير، ومنحه عقد الستينيات الفريد الفرصة على طبق من ذهب، خاصة مع بداية انتشار أجهزة التلفزيون والكاميرات الفوتوغرافية وثقافة النسخ الطباعي، ولم يفرط الشاب الطموح في الفرصة، بل استثمرها حتى صار أهم فناني عصره، وصانع أيقوناته التي لا تزال ممهورة ببصمته الفريدة حتى يومنا هذا.

من هنا، تأتي أهمية المعرض الضخم الذي افتتح أخيراً بمدينة لييج البلجيكية، واستضافه متحف la Boverie تحت عنوان "وارهول.. مصنع الحلم الأميركي"، الذي يقدم لنا نظرة شاملة على منجز وارهول التشكيلي والفوتوغرافي والسينمائي، على مدى ما يقرب من أربعة عقود، منذ إطلالته الفنية الأولى عام 1961 في معرضه الفردي الأول، إذ قدم فيه أعماله الفنية ذات الطابع غير المسبوق في التصوير الفوتوغرافي الملون على شاشة من حرير، وحتى رحيله عام 1987.

وعلى الرغم من أن وارهول لم يكن أول فناني أميركا الذين التفتوا إلى أهمية حركة البوب آرت في الفن، والتي ظهرت منتصف الخمسينيات في المملكة المتحدة، حيث سبقه معاصراه روي ليختنشتاين وروبرت روشنبرغ، إلا أنه كان أكثر منهما استجابة لثقافة "تسليع الفن" عبر وسائل الإعلام الجماهيرية التي قوي حضورها في الستينيات، لمَ لا وهو القائل: "أفضل شيء في الصورة هو أنها لا تتغير أبداً، حتى عندما يتغير الأشخاص الموجودون فيها".

كان أكثر الفنانين استجابة لثقافة تسليع الفن عبر وسائل الإعلام


رقصة سانت فيتوس
عانى وارهول منذ صغره من اضطراب عصبي في أطرافه يعرف باسم رقصة سانت فيتوس، ويتميز بحركات لاإرادية لا يمكن للمصاب السيطرة عليها. لذلك، كان يلزم البيت عندما كان هذا الاضطراب يمنعه من الذهاب إلى المدرسة، فكانت أمه تحثه على قضاء الوقت في قراءة القصص المصورة وتصفح مجلات هوليوود واللعب بقصاصات الورق وصور الفنانين. وبالرغم من نشأته في أسرة شديدة الفقر وفي عصر الكساد الأكبر، إلا أن أمه، التي انتبهت إلى مواهب ابنها مبكراً، استطاعت أن تشتري له أول كاميرا عندما كان في الثامنة من عمره، فأولع بها الطفل المريض، وربما كانت هذه الهدية هي التي جعلت منه الشخص الذي نكتب عنه اليوم.

بعد تخرجه من معهد كارنيجي للتكنولوجيا عام 1949، انتقل وارهول إلى نيويورك لمتابعة مهنة الرسم التجاري، وما هي إلا أيام حتى انضم الشاب إلى فريق مجلة Vogue and Glamour، بعدما سأله محررها: "ما الشيء الذي تبرع في رسمه؟"، فكان جواب وارهول الهادئ: "أرسم كل شيء ببراعة"، كفيلاً بضمه إلى فريق العمل، ليصبح خلال سنوات قليلة أحد أهم فناني نيويورك المعروفين في مجال الإعلانات الصحافية، وأحد أكثر الفنانين التجاريين نجاحاً في أميركا الخمسينيات، ما أهله للفوز بجوائز عدة عن أسلوبه الفريد وغير المسبوق في الرسم الصحافي. 

حتى تمكن عام 1964 من استئجار استديو علوي وسط مانهاتن، الذي عُرف لاحقاً باسم "المصنع"، وشكل هذا المكان المركز الأهم خلال عقد الستينيات، وتحول إلى بؤرة جذب يجتمع فيها نجوم السينما والغناء والموضة والرقص والموسيقى، الذين أصبحوا بدورهم مادة خام لمطبوعات وارهول وصوره وأفلامه. ومن خلال هذا "المصنع"، تعاون وارهول مع العديد من فناني البوب آرت الشباب لاحقاً، وكان من أبرزهم جان ميشيل باسكيا وفرانشيسكو كليمنتي وكيث هارينغ.

آداب وفنون
التحديثات الحية

أيقونات وارهول
بدأ وارهول رسم لوحاته الشعبية الأولى عام 1961، مستوحياً إياها من الرسوم الهزلية والإعلانات والبضائع الاستهلاكية، ويعدّ تصميمه لعبوة مشروب Coca-Cola في ذلك العام الجزء المحوري الأهم في انطلاقته الفنية والمهنية، وكانت الدليل على أن انتقاله من الأعمال المرسومة يدوياً إلى تقنية الطباعة الفوتوغرافية باستخدام الشاشة الحريرية، قد مر بمراحل وتطورات عدة ولم يأت من فراغ، فالتكوينات ذاتها استخدمها وارهول لاحقاً باللونين الأسود والرمادي في أيقوناته الفوتوغرافية التي صنعها لمشاهير عصره من نجوم هوليوود، في مزيج غريب بين البوب آرت والفن التجريدي، حين قدم عام 1962 لوحاته لوجه مارلين مونرو، التي استخدم فيها صورة لنجمة الإغراء الأشهر في هوليوود الستينيات من فيلم نياغرا عام 1953. 

وبعد نجاح معالجته اللونية لصورة مارلين مونرو، بدأ وارهول تقديم سلسلة كبيرة من صور المشاهير، فقدم صوراً لإلفيس بريسلي وإليزابيث تايلور وجاكلين كينيدي والصيني ماو تسي تونغ وميك جاغر. واكتسبت هذه الصور شهرة واسعة، وبدأ وارهول في تلقي مئات الطلبات من المشاهير والأثرياء للحصول منه على صور مشابهة لهم، ويكفي أن نعرف أن لوحته المعنونة Eight Elvises أعيد بيعها بمبلغ 100 مليون دولار عام 2008، ما جعلها واحدة من أغلى الأعمال الفنية في تاريخ الفن العالمي المعاصر. وفي العام ذاته، صنع سلسلته التجارية لعلب حساء كامبل الشهيرة والمكانس الكهربائية والهامبرغر.

أحدثت هذه الرسوم الصغيرة للمنتجات الاستهلاكية اليومية ضجة كبيرة في عالم الفن، ووضعت فنانها تحت الأضواء والانتقادات، ما دفع وارهول نفسه إلى تبرير ولعه بفن الإعلانات في أحد حواراته الصحافية آنذاك قائلاً: "بمجرد أن تتشبع أذناك بموسيقى البوب، لن يمكنك أبداً رؤية أي لافتة إعلانية بالطريقة نفسها مرتين، لذلك فبمجرد تفكيرك في هذه الموسيقى المختلفة لن تتمكن من رؤية أميركا بالطريقة نفسها مرة أخرى".

كانت مارلين مونرو بدايته في العمل على صور سلسلة من المشاهير


رصاصات النسوية
في الفترة بين 1963 و1968 أنتج وارهول مجموعة من الأفلام التجريبية، بدءاً من أول فيلم طويل له بعنوان "النوم" عام 1963، والذي صور من خلاله الشاعر جون جيورنو نائماً لمدة خمس ساعات وإحدى وعشرين دقيقة! وفي عام 1964 قدم وارهول فيلمه الصامت Empire، الذي وصلت مدته إلى ثماني ساعات كاملة، كلها لقطات بطيئة مستمرة لمبنى Empire State في نيويورك. وفي عام 1966، قدم أكثر أفلامه نجاحاً تجارياً، وهو فيلم The Chelsea Girls ذو الشاشة المزدوجة، ومدته ثلاث ساعات.

لكن في نهاية الستينيات، كادت حياة آندي وارهول المزدهرة أن تنتهي برصاصات نارية غاضبة، حين أطلقت عليه الكاتبة الطموحة والناشطة النسوية المتطرفة فاليري سولاناس النار في الثالث من يونيو/ حزيران عام 1968، بسبب رفض وارهول استخدام أحد نصوصها في أحد أفلامه. أصيب وارهول بجروح خطيرة في هذا الاعتداء الذي لم يكن يتوقعه، خاصة بعدما ظهرت سولاناس في أحد أفلام وارهول الأولى. أمضى وارهول أسابيع في أحد مشافي نيويورك يتعافى من إصاباته، وخضع لعدة عمليات جراحية لاحقة، ونتيجة للإصابات التي لحقت به، اضطر إلى ارتداء مشد جراحي لبقية حياته.

لايف ستايل
التحديثات الحية

صورة للمجتمع الاستهلاكي
يقدم المعرض البلجيكي الضخم عن حياة وارهول، والذي سرعان ما أعلن عن إغلاق أبوابه أمام الجمهور بسبب تدابير كورونا، رحلة حقيقية في التحولات السياسية والاجتماعية المهمة التي مرت بها أميركا والعالم منذ الأربعينيات وحتى الثمانينيات، مع وفرة من الرسوم واللوحات والأفلام والمطبوعات والمجلات وأغلفة التسجيلات التي يعرض الكثير منها للمرة الأولى، مع الكثير من قطع الأرشيف السينمائي التي لم يسبق عرضها من قبل، ومنها مخطوطات من كتابه "فلسفة آندي وارهول.. من الألف إلى الياء والعودة مرة أخرى"، فيما عرضت مشاهد من تجاربه في الفيديو، حيث قدم وارهول أكثر من 60 فيلماً خلال حياته المهنية، ومنها فيلمه Eat، الذي يظهر فيه رجل يأكل الفطر لمدة 45 دقيقة.

في منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي، بدأ آندي وارهول يعاني من مشاكل مزمنة في المرارة، فقام بإجراء عملية جراحية تكللت بالنجاح لاستئصالها، إلا أنه عانى بعد أيام من مضاعفات أدت إلى إصابته بسكتة قلبية مفاجئة، توفي على أثرها في 22 فبراير/ شباط 1987 عن عمر ناهز 58 عاماً. 

استوحى أعماله من الرسوم الهزلية والإعلانات والبضائع الاستهلاكية
 

يعرض The American Dream Factory حياة وأعمال أحد أكثر الفنانين شهرة وتأثيراً في القرن العشرين، مستعرضاً صورة كاملة لتقلبات المجتمع الأميركي الاستهلاكي، من خلال عين آندي وارهول، الذي محى - عن عمد  - الانقسام بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية في أعماله الاستهلاكية ذات النسخ المتعددة، من خلال استفادته من الينابيع التسويقية والتواصلية لـ"مجتمع الترفيه" الأميركي في الستينيات، ومشككاً في الحلم الأميركي وشخصياته الأسطورية وأيقوناته، من خلال لمسته الخاصة التي جعلت منه ومن أعماله رمزاً لأميركا المعاصرة.

المساهمون