أورسون ويلز مجدّداً: بؤس صُور وتكرارها وخواؤها

أورسون ويلز مجدّداً: بؤس صُور وتكرارها وخواؤها

14 أكتوبر 2020
"المواطن" أوروسن ويلز: صدفة الأمجاد (Getty)
+ الخط -

هذا فيلمٌ وثائقيٌّ عن مخرجٍ كبير، يكفي أنّ الناقد السينمائي المؤسِّس أندريه بازان (1918 ـ 1958) استشهد به 15 مرة في كتابه "ما هي السينما؟" (4 أجزاء صادرة بين عامي 1958 و1962). لديه حضور طاغٍ، حتى إنّ من يسمع اسمه يظنّ أنّه أخرج عشرات الأفلام، التي شغلت الصالات السينمائية زمناً. مخرج كلاسيكيّ، أي مُسلَّم بمنهجه، ويستحق أنْ يكون قدوة للمخرجين الشباب.

لكنّ هذا الانطباع يتغيّر. المنصّة الأميركية "نتفليكس" تعرض سيرة مريعة للمخرج المقدّس لدى الـ"سينفيليين"، وإنْ لم يكتبوا عنه كثيراً، كذلك فإنّه مشكوكٌ بمشاهدتهم أفلامه كلّها. مع ذلك، وبسبب هذا التقديس، ستكون المقالة هذه أشبه بعبورٍ في حقل ألغام. ستعرض المقالة وقائع ومقارنات، من دون المجازفةِ بحكم قيمة واحد.

 

نجاحٌ واحد

في شبابه، أنجز أورسون ويلز (1915 ـ 1985) "المواطن كين" (1941)، محقِّقاً نجاحاً مدوّياً. بعده، قام بعشرات المحاولات. ما أخطرَ أنْ ينجح الفيلم الأول، ثم لا يُقدِّم صاحبه جديداً بعد ذلك، فيتذكّر العالم فيلمه الأول فقط. حينها، يعزّي ويلز نفسه قائلاً: "سيحبّونني حين أموت". هذا يُصبح عنوانَ وثائقيٍّ (2018) عنه لمورغان نيفيل (1967). يتناول "المواطن كين" عملَ مُخرجٍ يُعدّ فيلماً وثائقياً عن إمبراطور الصحافة الراحل كين (يؤدّي ويلز الدور، وهو ممثل كبير). يغرق الفيلم في "فلاش باك" شفهي، محاولاً تغطية 70 عاماً من عمر البطل بحوارات طويلة عن المال والإعلام. تغطّي الأحداث زمناً طويلاً، ما يجعل الإيقاع رتيباً. للتخلّص من هذه العيوب، يناقش المخرج مساعديه في ما يُشاهدونه، ويستنتج أنّ "الإخراجَ تفسيرُ الشخصيات من خلال كلماتها".

تطبيقاً لهذه النظرية، المكتشفة بعد نهاية التصوير، يبعث المخرج مساعديه للبحث عن تفسير لآخر كلمة ينطق بها إمبراطور الصحافة. هكذا يُعاد التصوير من الصفر. يبدو أنّ هذه الـ"ميتا سينما" تسحر الـ"سينفيليين"، إذْ هناك انشطار مرآوي لفيلمٍ عن صناعة فيلم.

تسحر الأسلبةُ عن الصناعة السينمائية الطلبةَ الـ"سينيفيليين"، لكنّها لا تعني شيئاً لعموم عشّاق السينما. ليس صدفة أنّ "المواطن كين" لم يُدبْلَج، ولا تعرضه منصّات المشاهدة الرئيسية.

ما يفعله المخرج داخل "المواطن كين" يصير حياة فعلية للمخرج ويلز. الدليل: 200 دقيقة في "سيحبّونني حين أموت" عنه، و"الجانب الآخر للريح" (2018) لويلز نفسه، الذي لم يُكمله رغم عشرات الساعات المُصوّرة في 6 أعوام (1970 ـ 1976). يحكي الفيلم (ساعتان اثنتان) عن غجرية تغوي عاشق دراجات كبيرة، وأشخاص يتجادلون في حافلة، ومخرج يدافع عن تصوير أفلام غير مربحة، وآخر يدافع عن الربح فيردّ عليه الأول قائلاً إنّ هذا "منطق اليهوديّ". فيلمٌ يريد مناقشة المواضيع كلّها دفعةً واحدة، بدلاً من أنْ ينحت موضوعاً واحداً منها. النتيجة: عيّنة فادحة لمحاولات تعديل الصدفة في أثناء التصوير، على أمل تحويل فكرة متواضعة إلى فيلمٍ عميق.

 

 

أثناء التصوير، هناك فيلم في عقل أورسن ويلز، لا في سيناريو مكتوب. لم تكن هناك ميزانية محدّدة. يحصل جدل في أثناء التصوير، فيؤثّر بالمعنويات. في أثناء المونتاج، يقترح ويلز تعديلات بعدية عدّة على المشهد الواحد. يشاهد، ثم يقترح، ثم يُصوِّر لقطات أخرى. منفّذ المونتاج منزعج. المال لا يكفي.

ثمّ الإذلال: يعرض ويلز مقطعاً من الفيلم في حفلة في هوليوود للحصول على التمويل. يُصفّق له الحضور، لكنّه لا يحصل على دولار واحد. الحلّ؟ لكي لا يكون ويلز رهينة في أيدي المنتجين، يعمل ممثلاً لكسب المال وتمويل الأفلام التي يخرجها بمزاجه.

 

ارتجال وصدفة ومونتاج

بحسب منهجه، يريد ويلز تجنّب السيناريو الإسمنتي المغلق، واعتماد الارتجال المفتوح الخلاق لاكتشاف الجديد المجهول. يقول: "المخرج رجل يدير الأحداث. الأحداث تقع صدفة". بسبب تعريفه للإخراج، يُصبح عدد الأفلام التي لم يُصوّرها أكثر من المُصوّرة والصادرة كاملة. 100 ساعة مُصوّرة من "الجانب الآخر للريح"، وأعوام طويلة من محاولات المونتاج في حياة المخرج وبعد رحيله. الصدفة غير قابلة للمونتاج، لأنّ الحكاية من دون استراتيجية تواصلية تكون كسيحة.

من يرى تشتّت المُصوَّر، من مخرج مثقف كبير، يُدرك أهمية القصّة والسيناريو الدقيق في أعمال ألفرد هيتشكوك (1899 ـ 1980) وستانلي كوبريك (1928 ـ 1999). فكيف نصدّق من يزعم أنّه سيُصوّر فيلماً تخييلياً من دون سيناريو محبوك؟

يمكن تصوير وثائقي عن نمر يصطاد من دون سيناريو، لأنّ النمر لن يقرأه. مع الحرص على ألّا تقع صدفةً، فيلتفت النمر إلى من يمسك الكاميرا.

فيلمان، واحد عن أورسن ويلز، والثاني له غير كامل، يقوّضان بالدليل المُصوَّر سمعة المخرج المبنية على شخصه وتعليقاته أكثر من كونها مبنيّة على منجزه الفني. مقالة كهذه ترتكز على معاينة دقيقة للمادة المُصوّرة عن ويلز، لا على تصديق ما يقوله الـ"سينفيليون".

"المواطن كين"، المُصنّف عظيماً، فيلمٌ إذاعي. فيه تُقدَّم جلّ المعلومات. فيه راوٍ ثرثار، لكنْ ليس عبر الصور. تُخاطب السينما العين، لا أقول الأذن. لو يُحذَف الصوتُ، يظهر بؤس الصُّوَر وتكرارها وخواؤها (هذا مبنيّ على تجربتي الشخصية). في نهايته، تعرض الكاميرا المتراجعة لقطة طويلة جداً للتماثيل واللوحات والفخامة المعمارية. لكنْ، لا يوجد حدث في هذا الديكور الفخم. تلتقط العين البشرية المعلومة في 3 ثوانٍ في اللقطة. عندما تمتد اللقطة إلى 300 ثانية، تصير عذاباً.

أسلوبياً، هناك "فلاش باك" على صعيد السرد. يضع ويلز الكاميرا في مواجهة مصدر الضوء، ما يجعل اللقطة أشبه بلوحة. هناك لقطات مشهدية طويلة، مرة بـ"ترافلينغ" إلى الأمام، ومرة بـ"ترافلينغ" إلى الوراء. كي لا يقطع اللقطات، يصوّر ويلز الفعل وردّ الفعل في لقطة واحدة. يستخدم عمق الكادر ليحصل على اللقطة المشهد. سينما قريبة من المسرح، تريد التخلّص من المونتاج، جوهر السينما. يتكرّر المشهد اللقطة.

ويلز ساحرٌ بشخصه وتعليقاته اللاذعة، وسيغاره. هذا كلّه لا يُغيّر الحكم على أفلامه، فهو يُشبه دونكيشوت، لأنّ السمعة كبيرة، والإنجاز والربح ضعيفان.

 

ثرثرة بدلاً من الاشتغال

مكتوبٌ عنه أنّه مخرج مثقف، مقتبس ميغل دي سيرفانتس (1547 ـ 1616) وويليام شكسبير (1564 ـ 1616) وفرانتز كافكا (1883 ـ 1924)، ومناضل ضد فرانكو (1892 ـ 1975)، ومتأثّر بالثقافة الأوروبية. لذا، يخوض حرباً مع المعايير الفنية لهوليوود. يمضي وقتاً طويلاً يتحدّث فيه إلى الصحافة في أوروبا، بينما يمضي كوبريك وقتاً طويلاً في التصوير في أوروبا. لم يكن كوبريك يتحدّث إلى الصحافة، ويمنع ممثليه من التحدّث إليها، كي لا يحوّلوا الأنظار عن الفيلم إلى "شخصهم". الفيلم يقول، وإن لم يقلْ فالصمت أفضل.

 

 

ماذا بقي من أورسن ويلز؟

جنون العظمة تبدّد، فشاخت شهرته مع الزمن، وتصريحاته بهتت. قال عن الاقتباس: "إننا جميعاً نخون شكسبير"، كما نُقل عن بيتر بروك (1925). لكنّ اقتباسات ويلز لشكسبير صارت متجاوزة، نظراً إلى نجاح الاقتباسات اللاحقة لمسرحياته وحياته.

ما معيار تقديم الفنان: شخصه أو عمله؟

عمله. لكن، حين يفشل شخصٌ إبداعياً، يُكثر التصريحات المستفزة ليبقى تحت الضوء، دافعاً عمله الضعيف إلى الظلّ. ليس المهم أنْ يكون المخرجُ شخصية عظيمة، بل أن يكون فيلمه عظيماً. أنجز جون فورد (1894 ـ 1973) أكثر من 100 فيلم، لكنّه لم يحظ قطّ بالمجد نفسه، لتصويره بطولة الجندي الأميركي. عام 1971، صدر Directed By John Ford لبيتر بوغادنوفيتش (1939)، عن جون فورد، شارك ويلز فيه كساردٍ. جواباً عن سؤال "من هو مخرجك المفضّل؟"، قال: جون فورد جون فورد جون فورد. ردّدها ويلز 3 مرّات. عملياً، كلّ ما فعله ويلز مُضاد لفورد. هذا فيلم وثائقي مُنجز عام 1971، أضيفت إليه شهادات مارتن سكورسيزي (1042) وستيفن سبيلبرغ (1946) وكلينت إيستوود (1930) عام 2006.

عند استعراض أفلام أورسن ويلز وجون فورد غير الثوري، وفيها جون واين (1907 ـ 1979) وهنري فوندا (1905 ـ 1982)، أشعر بالغضب من فرط الاهتمام بالأول، الذي قدّم عُشْر أفلام الثاني (130 فيلماً)، منها اقتباس رواية جون شتايبنك (1902 ـ 1968) "عناقيد الغضب" (1939) في فيلمٍ أنجزه فورد عام 1940، أي قبل عام واحد على "المواطن كين". فورد إيرلندي، يعمل ويُصوّر بدلاً من أنْ يثرثر. هكذا دفع بفنه إلى المقدمة، بينما تحدّث ويلز كثيراً، فدفع بحياته إلى الواجهة.

في سلسلة سيرة بابلو بيكاسو (1881 ـ 1973) على "نتفليكس"، يستشهد الرسّام التكعيبي جورج براك (1882 ـ 1963) بالروائي غوستاف فلوبير (1821 ـ 1880)، الذي يخاطب الفنان قائلاً: "كُنْ عادياً في حياتك الشخصية لتكون مُبتكراً وشرساً في أعمالك".

المساهمون