لماذا نحن بحاجة إلى ألفريد هيتشكوك؟ (1 - 3)

لماذا نحن بحاجة إلى ألفريد هيتشكوك؟ (1 - 3)

27 يناير 2017
(ألفريد هيتشكوك، الصورة: سي بي أس صور الأرشيف)
+ الخط -

"لقد كان واحدًا من أعظم الفنانين في قرنهِ".
وُسِمَ ألفريد هيتشكوك لسنوات عديدة بأنه "سيّد التشويق"، واليوم يتم نعيهُ بالاسم نفسه. ولكن هذه الوسم يحمل في طياتهِ الإهانة للراحل، فهو يُظهره على أنه عالقٌ في ذات الروتين ويلعب بالأشياء كالأطفال، في الوقت الذي يُعتبر فيه ألفريد واضع حجر الأساس لأفلام التشويق (كما فعل جون فورد مع أفلام الويسترن)، في الوقت الذي كان فيه ويلز وبيرغمان يصنعان "الأفلام". ولقب "سيد التشويق" يدل على وجود خبرة فنية ضئيلة عند الشخص الموسوم بهِ. ألفريد هيتشكوك يعلم كل خبايا وحيل صنعتهِ والتي تسمح له كـ "سيّد" أن يوظفها ويحصل على رهبة جمهوره. تبدو موهبة مثل موهبة هيتشكوك نادرة واحتيالية ومتلاعبة وقلّما تجد مثلها. لقب "سيد التشويق" تمامًا يلائم من يحرّك الدمى بالخيوط.

بطبيعة الحال، فإن هذا اللقب عادة ما يتمّ استخدامه مع شيء من العاطفة من قِبل هواة السينما التافهين. يحبُ هؤلاء الهواة إحياء ذكرى اللّمسات السينمائية العظيمة والمشاهد الكلاسيكية وبعض المقاطع المقصوصة من بعض العروض التلفزيونية الخاصة مثل مشهد كاري غرانت وهو في طريقه للطابق العلوي مع كأس الحليب المميت، أو مشهد كاري غرانت وهو هارب من طائرة رش المحاصيل، أو مشهد كاري غرانت وهو ينزل الدرج مع إنغريد بيرغمان أو مشهد جانيت لي وهي تستحم.



يعمل هؤلاء الهواة على إدامة فكرة أن هيتشكوك كان مجرد "مخرج أفلام تشويق وإثارة موهوب" ومن خلال الاحتفاء بهذه المشاهد التشويقية القليلة، وهو تمامًا ما يحب أن يدّعيه عنه نقّاده: "ساخر شعبي وعبقري سينمائي" – ستانلي كوفمان. "فنان محترف في بناء مصائد الفئران" وهذه التقنيات التي يستخدمها "لها علاقة بالألاعيب أكثر من الفن" – بولين كايل. لقد نُبِذ هيتشكوك وقُدّس من أجل ذات السبب الخاطئ. يؤمن معجبو وناقدو هيتشكوك ضمنيًا، بأنه سيبقى نجمًا في تاريخ الأشخاص الذي حرّكوا وداعبوا عاطفة الجماهير مثل: ب. ت. بارنوم وجوزيف وغوبلز والأفعوانية.

لقد عمل هيتشكوك في تعزيز هذه الانطباع عن نفسه دون قصدٍ منه، على الرغم من تصريحاته في المقابلات، بأنه ينأى بنفسهِ عن التأويل. وإذا سُئل، فإنه وعلى عجالة يشرح الموضوع بمصطلحات بسيطة أو أنه يردّ الأسئلة ولا يجيب عليها بطريقته الخاصة. وإذا سُئل على سبيل المثال سؤالًا حول ما إذا كان هناك أي مشهد هنا أو هناك له أي أهمية، فإنه سيتفق ويقول بأنه من الممكن أن يكون كذلك. وإذا سُئلَ: "أليس هذا بتصميم رائع؟" فسيجيب: "قد يستغرق المرء عمرًا وهو يدرسه". فعوضًا عن لعب دور الناقد، سيستمر هيتشكوك في إخبار النكات بصياغة قواعد الإستراتيجية السردية، وسيسبغ في مديح اختراعاته التقنية، مثل أسئلته للمذيع تروفو: "هل أحببت المشهد الذي به كوب الحليب؟ أضع الضوء تمامًا في داخل الكوب لأني أردته أن يكون مضيئًا". سيدّعي بأنه لم يفكر في أشياءٍ أهم بل سيقضي وقتًا يتحدّث عن كيف أراد للكوب أن يضيء أو كيف أراد لدوامة الخيل في الملاهي أن تدور بشكل قويّ، أو كيف أراد للطائرة أن تتحطّم في عرض البحر.

اُتخذَ هذا الاهتمام الواضح بميكانيكا الأشياء كدليل ضده، على أنه مجرد شخصٍ يضع اللمسات النهائية مثل بائع الأزهار الأنيق الذي يرتب الورود بعد وضعها في الباقة. ولكن على العكس تمامًا، فقد اعتبر هيتشكوك أن هذه التقنيات والتأثيرات مسلية ومهمّة، ولكن ليس بالأهمية الكلية في المشاهد، حيث يبدو ألفريد حريصًا جدًا على تبديد وتضييع تأثيرها عن طريق تفسير هذه الأشياء بعناية فائقة. (حتى عندما كان فيلم The Birds تحت الإنتاج، قال هيتشكوك للإعلام كيف عمل على وضع وهم هجوم الطائر).

والأكثر أهمية، هو أن حديث هيتشكوك عن كل صغيرة وكبيرة في المشاهد يقيه شرّ الوقوع في التصريح عن بعض الأشياء التي قد تعمل على تحديد وتقييد معنى وفهم الفيلم لدى الجمهور. ولن يبدي ألفريد حتى أي أدنى جهد للحديث عمّا أراد إيصاله للمشاهدين من إنتاجه للفيلم، بل يترك لأمر لهم ولخيالهم.

وهذا فعليًا هو ما أراده ضمنيًا في أفلامهِ وهو السرّ أيضًا لإبداعه الذي لا ينضب. لقد أراد هيتشكوك من مشاهديه أن يتعلّموا بأنفسهم حتى يكونوا قادرين على الرؤية بنفسهم كذلك. أثناء المشاهدة، يعمل هيتشكوك على جعل المشاهدين يكتشفون رؤيتهم الخاصّة حول الفيلم، ثم وفي لقطة أخرى يجعلهم يتركون هذه الرؤية. قال أحد الصحافيين له: "أنت تتوقّع الكثير من جمهورك"، فأجاب هيتشكوك: "فقط لأولئك الذين يريدون. ولا أعتقد أن يجب أن نشاهد الأفلام مرّة واحدة، وإنما مشهدًا تلو الآخر". إذًن، فإن أفلام هيتشكوك "فقط لأولئك الذين يريدونها" على الرغم من أنه كان ماهرًا في تقديم 90 دقيقة من النشوة لمشاهديهِ.

لم يكن هيتشكوك متساهلًا تجاه الميكانيكية وقد كان يعمل واصلًا الليل بالنهار ليشدّ ذهن مشاهديه نحو وعيٍ بصري واضح ونظيف، من شأنهِ أن يتجاوز اللذة العاجلة للمرّة الواحدة (One-night-stand-pleasures)، وليتجاوزها إلى ما بعدها. وقد كان هيتشكوك قادرًا على فعل ذلك ببساطة، لأنه كان يتقن فنه ومجاله من جميع الجوانب الممكنة له.

لقد كان هيتشكوك كاتبَ سيناريو ممتازاً، وعلى الرغم منه، فقد حصل على فضل كتابة سيناريو مرّة واحدة فقط، بعد عام 1932 لفيلم (Dial M for Murder)، إلا إنه كان المرشد الداهية للسيناريوهات خلف كل المشاهد والأفلام العبقرية التي أخرجها وفعليًا كانت بعض الحوارات من تأليفه الخاص، حسبما قال هو نفسه ذات مرّة بلا مبالاة كالمعتاد: "كل ما في الأمر أنني كنت كاتبًا في السنين الماضية". بقيت قدراتهِ السردية وقدرتهِ على بناء الحبكة وكيف يقود إليها بلا نظير ولا مثيل.

وعلاوة على ذلك، فقد كان عبقريًا في استخدام العامية في حواراته. وكان يستخدم الكلمات ذات المعاني المزدوجة بشكلٍ كبير (Double entendres/ الكلمات التي تستوجب قولًا "بلا قافية" في السياقات العربية العامية)، إلا أن حوارات هيتشكوك مثالية وبارعة وذكية وموجزة ومليئة بالمعاني، وعملت المحادثات القصيرة في الأفلام كتذكيرات بريئة على قدرتها على السير في عكس طريق المؤثّرات البصرية للحدث.

يعتمد هذا النوع من المفارقات على عدّة مواهب، منها أن هيتشكوك بالقدر الذي كان فيه مخرجًا، كان شاعرًا دراميًا متمرسًا كذلك. قد يدّعي بأنه لا يهتم لأسطر النصوص الخاصة بالممثلين، لكن نصوص أفلامه العبقرية وعادات عملهِ الدقيقة تكذّب ادعاءه هذا. لم يتحدّث هيتشكوك مع كتاب نصوص أفلامهِ على أنه مجرد مخرج وله الكلمة، بل وكأنه كاتب معاون ومشارك في وضع النص. لقد كان هيتشكوك قادرًا على استخراج أفضل ما عند تشارلز بينيت، وارنست ليمانوثورنتون، وايلدروايفان هنتروجون، مايكل هايز وكثيرين غيرهم من كتاب السيناريو المشهورين، بما فيهم زوجته ألما ريفيل والتي كانت يده اليمنى منذ زواجهما وحتى نهاية مسيرته الفنية (1926-1980).

لقد عمل هيتشكوك أيضًا بفعالية عظمى مع الممثلين أيضًا، ليقدّم لنا عشرات المشاهد الملهمة في تاريخ السينما. لقد تم إخبارنا، بأن كل ما كان على الممثلين في أفلامهِ، هو الوقوف أمام الكاميرا، ولكن هذا الحكم يبدو من ظاهره سخيفًا.

لقد تطلبت أعمال هيتشكوك الدرامية ذات الطابع المتناقض والازدواجي أن تقدّم الشخصيات أكثر الأوصاف تعقيدًا: مثل انتقال شخصية تشارلي الصغيرة التي مثلتها (تيريزا رايت)، من حالة الفرح والسرور إلى حالتها غير المستقرة في فيلم Shadow of a Doubt ، وشخصية أليكس سيباستيان التي مثّلها كلود رينز، والتي كانت في البداية ساحرة وبائسة ثم انتقلت إلى كونها حانقة بشكل كبير في الفيلم نفسه Notorious، وشخصية أليشا هوبرمان التي مثلتها إنغريد بيرغمان، والتي كانت متهورة جدًا وغير مسؤولة في التعامل مع الحب في فيلم Notorious، وشخصية ستيفن فيشر التي مثلها هربرت مارشال المثيرة للمفارقة، والتي تعاني من الشعور بالذنب في فيلم Foreign Correspondent، والشخصية البرجوازية التخريبية الخبيثة والطائشة لكارل أنطون فيرلاك، التي مثلها أوسكار هومولكا في فيلم

Sabotage، شخصية السيدة بيرنر والتي مثلتها جيسيكا تاندي في فيلم The Birds، والتي كانت تكافح وتجاهد من أجل الحفاظ على بيتها وحالتها العقلية السليمة والكثير الكثير من الشخصيات ومن ضمنها وحوش هيتشكوك الثلاثة: جوزيف كوتون والذي مثل دور العم تشارلي (العدمي الأنيق) في فيلم Shadow of a Doubt، وروبرت واكر الذي مثل دور أنتوني برونو (الفاجر والماكر) في فيلم Strangers on a train، وأنتوني بيركنز الذي مثل دور نورمان بيتس (القاتل الجماعي الصبياني ومسيء استخدام الألفاظ) في فيلم Psycho.

لقد عرض هيتشكوك مرونة الممثل كاري غرانت، وقدرته على تلبس أي دور في الأفلام التالية: (Suspicion وNorth by Northwest وTo Catch a Thief)، وأظهر جزءًا من قدرات جيمس ستيوارت في الأفلام التالية: (Rear Window وVertigo وRope ، وفي الفيلم المعاد إنتاجه The Man Who Knew Too Much)، وأثبت هيتشكوك أيضًا أن غريس كيلي تملك أكثر من مجرد وجهٍ باردٍ.

يقول جيمس ستيوارت: "لم يسبق لي أن عملت مع أي شخص، كان أكثر مراعاة وأكثر إفادة وأكثر فهمًا للعناصر الفاعلة في المشهد عندما عملت مع هيتشكوك"، وقالت إنغريد بيرغمان ذات مرّة: "كل ممثل عمل فعلًا مع هيتشكوك سيرغب بالعمل معه مجددًا". وطبعًا هناك القليل من الأشخاص الذين لا يتّفقون مع وجهات النظر أعلاه، لأن هيتشكوك لم يحب الارتجال في الأفلام ولم يحب أن يفعل الأشياء حسب المزاج، وعليهِ فإن عمله مع بعض الممثلين لم يسر بشكل جيّد مثل تشارلز لوتون في فيلم Jamaica Inn، وكيم نوفاك في فيلم Vertigo. ولم يكن هيتشكوك كذلك صبورًا مع الممثلين المنهجيين (الأسلوبيين)، الذي كانوا يسألون الكثير من الأسئلة مثل مونتغمري كليف في فيلم ، Confess وبول نيومان في فيلم Torn Curtain.

المساهمون