أحمد عبد القادر... وكمان وحوي

أحمد عبد القادر... وكمان وحوي

12 مارس 2024
من أجواء رمضان في القاهرة (فرانس برس)
+ الخط -

بعد رحيل أم كلثوم بأربعين يوماً، أقيم حفل كبير لتأبينها، شاركت فيه أسماء بارزة من أهل الفن والفكر والأدب. لكن منظمي الحفل فوجئوا بشيخ ستيني يحمل عوداً ويطلب الدخول، ولم يكن بحوزته دعوة مسبقة، فبادروه برفض واعتذار، إلى أن تبين لهم أن حامل العود لم يكن إلا المطرب والملحن أحمد عبد القادر الذي كاد الزمن أن يطوي ذكره حتى بين معاصريه.

وعلى الفور، كان أحمد عبد القادر في مكانه الطبيعي على مسرح الحفل، يغني بصوت ناضر موالاً في وداع الست، ويتبعه بقصيدتها القديمة: "ما لي فتنت بلحظك الفتاك"، وسط استحسان كبير واحتفاء من صفوة المستمعين الذين ملؤوا جنبات المسرح.

لم يكن أحمد عبد القادر قد اعتزل الفن، ولم تكن الإذاعات قد توقفت عن بث أغنياته بصوته أو بألحانه، ورغم ذلك، تعرض لهذا الموقف، الذي يُسأل فيه: من أنت؟ وحين يتكرر السؤال اليوم، فإن "مستقرات" الحياة الفنية المعاصرة تجيب من فورها: أحمد عبد القادر، صاحب أغنية "وحوي يا وحوي" التي كتبها حسين حلمي المناسترلي، وهي إحدى أبرز علامات شهر رمضان، والأخت الكبرى التي سبقت بست سنوات شقيقتها الأيقونية "رمضان جانا".

لا تكتفي الصحافة الفنية بنسبة غناء "وحوي" إلى أحمد عبد القادر، فتتبرع بأن تنسب إليه لحنها أيضا. والحقيقة أن اللحن لواحد من كبار المنسيين، هو أحمد الشريف (1916- 1969)، وهو ممن أكثروا التعاون مع عبد القادر.

فعلت "وحوي" فعلها في صاحبها. أغنية ناجحة تبثها مختلف الإذاعات المصرية والتلفزات العربية مدة 30 يوماً كل عام. لكن بعيداً عن "وحوي"، فأحمد عبد القادر هو الشيخ المؤذن المنشد المطرب الملحن، ترك ثروة هائلة من الأغنيات والابتهالات والأناشيد. لحن لنفسه، ولحن لغيره، وغنى من ألحان آخرين.. كان مطربا مقتدرا، متمرسا بمختلف ألوان الأداء، كلاسيكية كانت أو حداثية.

ولد أحمد عبد القادر عام 1916، واحترف الغناء مبكرا، واشتهر بقدرة فائقة على تقليد المطربين والمطربات، ووصل بمستويات محاكاته إلى حد أن يشتبه المستمع بينه وبين أم كلثوم. وفي سنواته الفنية الأولى، كان قادرا على الغناء بصوت ذي طابع أنثوي واضح، فلا يشك المستمع لحظة واحدة في أنه يستمع إلى مطربة، بل مطربة شابة، إلى أن يصدم بالبيانات على الإسطوانة أو من مذيع الراديو بأن الصوت لمغن وليس لمغنية.

وفي جزئية الأداء بصوت أنثوي، لا سيما في بداياته، يمكن أن نشير إلى غنائه لطقطوقة "طال عليا البعد" من ألحان الشيخ زكريا أحمد، أو منولوغ "خلي البلابل تشجيني" ومنولوغ "الجو رايق" وطقطوقة "طلع القمر والطير غنى"، وكلها من ألحان رياض السنباطي. في هذه التسجيلات، لا يمكن لمستمع لا يعرف هذا الجانب عند أحمد عبد القادر إلا أن يجزم بأن الصوت لمطربة شابة.

اتسم إنتاج عبد القادر بتنوع كبير وثراء بالغ، لكن الرجل أعطى الغناء الديني قدراً كبيراً من اهتمامه واختياراته. ولا عجب، فهو الشيخ المنشد، المعين مؤذنا بمسجد الإمام الحسين، أهم مساجد القاهرة وأكثرها ازدحاما بالرواد.

أنشد أحمد عبد القادر عشرات، وربما مئات من الأدعية والابتهالات وقصائد المديح النبوي، وترك أعمالاً لمختلف المناسبات الدينية، كشهر رمضان، وذكرى المولد، والإسراء والمعراج، ومواكب الحجيج، وتمثيلاً لا حصراً، نشير إلى طقطوقتين غناهما من ألحان رياض السنباطي وكلمات حسين حلمي المناسترلي، الأولى تتحدث بلسان الحجيج المتوجهين إلى الأراضي الحجازية، وتقول: "يا حبيب الله يا سيد الكون مدد.. إمتى نوصل يا هناه.. يا هناه اللي انوعد".

والثانية تجري كلماتها على لسان الحجيج في طريق عودتهم بعد أداء الفريضة، وتقول كلماتها: "إمتى نعود لك يا نبي، ونمتع الأنظار.. والفرح يرجع يا نبي، والطبل والمزمار.. وقد حققت الإسطوانتان نسب مبيعات عالية جدا. ولمناسبة الحج أيضا، غنى من كلمات محمد إسماعيل: "على عرفات.. أنا ناوي على عرفات.. ده كل العمر ما يساوي نهار عرفات.. أحب وأزور.. وأشوف النور، وأنول الأجر والبركات.. على عرفات".

وفي أمثلة الأعمال الدينية باللغة الفصحى، غنى أحمد عبد القادر من ألحانه، ومن كلمات محمد هارون الحلو: "بهجرة طه تغنى الزمن.. وأشرق في الكون نور جديد.. نبي الرسالة جد الحسن.. وجد الحسين وزين الوجود". ومن أغنياته الرمضانية غير "وحوي" الشهيرة، قصيدة "ذكراك يا رمضان".

كما غنى الرجل عشرات النصوص التي تحمل كلماتها مناجاة أو دعاء أو ابتهالات ضارعة، ومنها: "يا خالق الخلق يا معبود، يا رب وفقنا دنيا ودين، أنت الكريم يا رب، بالصلاة اطلبوا حب الإله، ربك يأمرنا ويهدينا.. جانا كتاب الله، تصاعد أنفاسي إليك متاب.. وكل إشاراتي إليك خطاب". كما أنشد الأبيات الشهيرة للإمام الشافعي: "تعصي الإله وأنت تظهر حبه.. هذا لعمري في القياس بديع".

وبهذا التراث الضخم والمتنوع من الأغنيات الدينية، صار أحمد عبد القادر المطرب الوحيد تقريباً الذي لم يترك مناسبة دينية إلا وقدم لها عملا مناسبا واحدا على الأقل، سواء بكلمات عامية أو فصيحة، بغناء فردي أو مع كورال، بمصاحبة موسيقية أو من دونها. غير الأوبريتات والمحاورات الغنائية التي يمكن أن نمثل لها بـ"دويتو" موكب النور الذي غناه مع المطربة أحلام، من كلمات علي الفقي وألحان إبراهيم حجاج.

وبسبب الإنتاج الضخم من الأعمال الدينية، ترك عبد القادر انطباعاً عند كثير من معاصريه بأنه "شيخ منشد"، أو متخصص في الابتهالات، لكن الرجل حرص بنفسه وفي حوار مسجل على نفي هذه الصورة، مؤكداً أنه مطرب وملحن شامل، لا يختص بلون دون آخر.

وهو بالفعل كذلك، مطرب غنى مختلف الأشكال، وملحن بارع، صاغ عددا كبيرا من الألحان التي تغنى بها كبار مطربي القرن العشرين، وفي مقدمتهم: صالح عبد الحي، وفتحية أحمد، ونجاة علي، وسعاد محمد، ورجاء عبده، ونادرة، وسعاد زكي، وعباس البليدي، وحورية حسن، وعبده السروجي، وعبد العزيز محمود، وأيضا نجاة الصغيرة التي لحن لها أغنية "يا ليل يا ليل"، وأيضا لحن لها أغنية رمضانية بعنوان "كريم يا شهر الصيام" من أشعار عبد المنعم السباعي.

بعض هذه الأغنيات نجح نجاحا جماهيريا كبيرا، وحقق انتشارا واسعا جدا، من دون أن يحقق ملحنها نفس القدر من الشهرة. ولعل المثال الصارخ في هذا الجانب، الأغنية المرحة "جميل وأسمر"، لمحمد قنديل، يعرفها كل الناس، لكن يندر أن نجد من يعرف أن ملحنها هو أحمد عبد القادر.

كان أحمد عبد القادر متمرسا بقوالب الغناء الكلاسيكية، لا سيما الموشحات والأدوار، وغنى منها قدرا معتبرا. ويلاحظ المستمع في تسجيلاته لهذا اللون حرصه الشديد على أداء أصل اللحن، من دون تصرفات فجة. وحتى في أداء الأدوار التي تسمح بمساحة أوسع للتصرف والارتجال، كان الرجل أميل لأداء "سادة"، وهو ما نجده في أكثر من تسجيل لدور "إمتى الهوى ييجي سوا"، أو موشحات: "أحن شوقا"، و"فات بدري"، و"يا نديمي قم سحيرا".

بدأ عبد القادر رحلته مع الغناء مبكراً، فانطلق صوته من الإذاعات الأهلية عام 1926، أي وهو طفل لم يجاوز 10 سنوات. ثم انتقل إلى الإذاعة الحكومية مع افتتاحها عام 1934. ثم التحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية عام 1929، وغنى وهو طفل قصيدة "وحقك أنت المنى والطلب" على مسرح المعهد أمام الملك، قبل أن يتخرج عام 1939. ثم عرفته الأوساط القاهرية بتقليد أم كلثوم إلى درجة وصفها هو بنفسه بأنها "تخدع أذن الخبير"، ثم اشتهر بأغنية  "يا عرقسوس شفا وخمير" التي لحنها وغناها أحمد شريف.

ويؤكد في حوار إذاعي أنه اشترك في 20 برنامجا غنائيا إذاعيا، ومنها "الغروب" و"ملاح النيل"، التي شاركه فيه كارم محمود، ويشير إلى أنه قدم الألحان لمعظم المطربين المصريين والعرب. وبلغت سعة اهتماماته أن يقدم أغنية باللهجة السودانية، بل قدم أغنيات باللغات التركية والإيطالية والفرنسية، وقدم عددا من أغنيات الأطفال من كلمات الشاعر علي سليمان.

افتتن أحمد عبد القادر بصوت أم كلثوم منذ أن كان طفلا، وحفظ أغنياتها وهضم طريقة أدائها، وظل بقية حياته في حالة الهيام بصوت سيدة الغناء، وترجم هذه المشاعر عام 1966 بأغنية كتبها الشاعر صلاح عفيفي بعنوان "إلى أم كلثوم"، يقول مطلعها: "رويدك أيتها الشاعرة.. ثملت بأنغامك الساحرة.. كأني أسمع في جنة.. نشيد بلابلها الطائرة".

لحن عبد القادر الكلمات على شكل محاورة غنائية، وغناها بمشاركة المطرب عبد القادر أحمد.. وبهذا العمل، أضاف الرجل إلى قائمة أغنياته لونا جديدا، متمثلا في الغناء لمديح صوت مطربة الشرق. ورغم كل هذا الإنتاج الغزير الوفير، بقي عبد القادر في نظر الجماهير الغفيرة مطرب أغنية وحيدة هي "وحوي يا وحوي"، فإن ذهب أحد يذكر الجماهير بأن للرجل أشياء غير وحوي، ردت الجماهير في عناد لذيذ: "وكمان وحوي".

المساهمون