أحمد صدقي... سماح يا أهل السماح

أحمد صدقي... سماح يا أهل السماح

14 يناير 2024
رحل في مثل هذا اليوم من عام 1987 (فيسبوك)
+ الخط -

ترأست السيدة هدى شعراوي اجتماعاً لجماعة أصدقاء المثال المصري الرائد محمود مختار، للنظر في الأسلوب الأمثل لإبقاء ذكراه حية في الوجدان الشعبي. وكان من قرارات الجماعة إقامة مسابقة بين شباب النحاتين، يُمنح الفائز فيها جائزة باسم المثال الاستثنائي الذي رحل في مارس/آذار عام 1934.

أعلنت الجماعة عن المسابقة في بدايات العام التالي، فتقدم لها عدد من هواة النحت، ثم أُعلن اسم الفائز: أحمد صدقي، شاب لم يجاوز 18 عاماً، يدرس في معهد الموسيقى الشرقية بالقاهرة، بعد أن درس النحت في مدرسة الفنون التطبيقية. يهوى النحت إذاً كما يهوى الموسيقى. يفوز في مسابقة مختار عن تمثال "الفلاحة المصرية"، وينحت تمثالاً يسميه محمدين النوبي. يُعجب به ملك البلاد فؤاد الأول، فيشتريه ليكون ضمن مقتنياته الملكية. تنازعته الهوايتان سبع سنوات تالية، ثم انتصرت وقائع الأيام للنغم، وأدارت ظهرها للحجر.

كان للبيئة المحيطة أثرها، فالأب الذي يعمل ضابطاً في البوليس يحب الغناء والطرب، ويُجري أحياناً مسابقات بين أولاده في حفظ الألحان، والفائز يكافأ بخمسة قروش. ذات يوم، عاد الأب إلى المنزل وهو يحمل جهاز فونوغراف، ومعه مجموعة أسطوانات لأم كلثوم وعبد الوهاب وفتحية أحمد وصالح عبد الحي.

كان صدقي، الصبي آنذاك، يستمع إلى الأغاني متعجباً من انتظام المغني مع العازفين. وهل يأتي هذا باتفاق مسبق أم بتمارين متكررة. أفهمه أبوه أن ما يسمعه من نغم وراءه رجل يقال له الملحن، ودوره أن يموسق الكلمات، لتصير أغنية صالحة للأداء والعزف. أخبره أبوه أن ملحناً كبيراً اسمه محمد القصبجي هو من يضع الألحان لأم كلثوم. كما حكى له عن معهد الموسيقى وأعلامه. لكن أحمد تخرج من مدرسة الفنون، وعمل فوراً رساماً في المتحف المصري، وأراد أن يتهيأ لدراسة النحت في إيطاليا، فالتحق عام 1936 بمعهد ليوناردو دافينشي لدراسة اللغة الإيطالية، واستطاع خلال ثلاث سنوات أن ينال شهادة إتقان اللغة. لكن، قامت الحرب العالمية الثانية، فقطعت الأمل في السفر. لكنها فتحت الطريق إلى الإذاعة.

في المتحف المصري، عمل أحمد صدقي (1916 - 1987) مع الرسام ومرمم الآثار والشاعر أحمد يوسف، الذي طلبت منه الإذاعة كتابة صورة غنائية عن وفاء النيل. ولما انتهى من الكتابة وجاءت مرحلة التلحين، اقترح يوسف اسم الشيخ زكريا أحمد، فرفض المسؤولون بسبب ارتفاع أجر زكريا. ومن هنا، بدأت فكرة أن يتصدى صدقي لتلحين الصورة التي تتضمن أربع أغنيات.

لحّن صدقي، وقبل المسؤولون، بل طلبوا منه أن يغنيها بنفسه، فغنى. كانت الألحان الأربعة مكسوة بطابع ريفي. وبدا للقائمين على البرامج أن صدقي متميز في هذا اللون، فخصصوا له ركناً إذاعياً للأغاني الريفية، ليقدمه مرتين شهرياً. وفي هذا الركن، تبنى صدقي عدداً من الأصوات المهمة، منها كارم محمود، وحورية حسن، وشافية أحمد، وسيد إسماعيل، وفاطمة علي. وكانت طقطوقة "يجعل صباحك ربنا فل وندي" آخر ما غنى قبل أن يتفرغ تماماً للتلحين عام 1943.

في هذا العهد، لم يكن مسؤولو الإذاعة مجرد موظفين يملؤون الهواء بأي شيء، بل كانوا قادة حقيقيين، يراقبون أداء المطرب والملحن والعازف. ومن هؤلاء القادة، الإذاعي الرائد حافظ عبد الوهاب، الذي رأى عام 1945 أن الوقت قد حان ليخرج صدقي من دائرة الغناء الريفي إلى مساحات أرحب، فعهد إليه بتلحين الصورة الغنائية "فرحة رمضان" التي كتبها الشاعر عبد الفتاح مصطفى. اشتركت في أغاني الصورة شافية أحمد، وفاطمة علي، ومحمود مرسي، وشجعت أجواؤها المبهجة على مشاركة صدقي نفسه.

تتذكر الجماهير جيدا من هذه الصورة أغنية "والله زمان يا رمضان" لفاطمة علي. وكان نجاحها الجماهيري سبباً لانطلاق صدقي في ميدان "الصورة الغنائية" التي تنتجها الإذاعة المصرية، فتوالت الصور من ألحانه، ومنها الاسكتش البدوي "راوية" الذي اعتبره ميلاده الحقيقي في ميدان التلحين. ثم توالت الصور، فقدم برنامج "يم الساقية" الذي كتبه مرسي جميل عزيز، ومنه لحن يا ليالي ملاح لكارم محمود، ثم عبد الفتاح مصطفى عن "الشاطر حسن"، ثم انهمر سيل الصور: قطر الندى، أم شناف، ضية، نزاجة، عوف الأصيل، سوق بلدنا، أمة الجهاد، وغيرها كثير، يقدره صدقي بنحو 250 صورة غنائية، كان أغلبها للشاعر عبد الفتاح مصطفى.

لكن لا يمكن تجاوز الحديث عن الصور والبرامج الإذاعية من دون التوقف أمام برنامج "الأغاني للأصفهاني" الذي كان يخرجه الإذاعي محمد محمود شعبان، ويكتب كلماته عبد الفتاح مصطفى، وهو سلسلة حلقات تقدم تعريفا بالكتاب الشهير، على لسان مؤلفه أبي الفرج، وحين يأتي الحديث عن لحن أو قصيدة مغناة، يأتي دور صدقي في تخيل اللحن المناسب، فقدم عشرات الألحان ضمن البرنامج، المتسم ببعد تثقيفي أكبر كثيرا من بعده الترفيهي.

لكن لا جدال في أن ألحان صدقي لكبار المطربين والمطربات كانت السبب الأساس في شهرته ومكانته بين أعلام التلحين في عصره، لحن الرجل لفتحية أحمد، ونجاة علي، وليلى مراد، وكارم محمود، ومحمد قنديل، ونجاح سلام، وفايزة أحمد، ونجاة الصغيرة، وعبد الحليم حافظ، وإبراهيم حمودة، وشادية، وصباح، وعبد الغني السيد، ونازك، وهدى سلطان، وعصمت عبد العليم، وفايدة كامل، وغيرهم كثر، يمكن أن نقول إجمالا إنه باستثناء أم كلثوم، فقد لحن أحمد صدقي لجميع الأصوات المهمة والمؤثرة في تاريخ الأغنية المصرية، في عصر الإذاعة، كما لحن أغنيات عشرات الأفلام السينمائية.

كان أحمد صدقي غزير الإنتاج بدرجة مذهلة، لكن مكانته لا تتوقف على الكم، فقد ترك الرجل مع كل مطرب أو مطربة لحناً أو لحنين من النوع المدوي جماهيرياً.. لا أحد ينسى لحنيه لليلى مراد في فيلم شط الغرام: الميَّة والهوا، ورايداك والنبي رايداك.. أو "سماح يا أهل السماح" و"رمش الغزال" و"ع الدوار" لمحمد قنديل، أو "عش الهوى المهجور" لنجاة علي، أو "ادي الحياة فرصة" لسعاد محمد، أو "وردك على الخدين" لفايزة أحمد، أو "البخت" لشهرزاد، أو "طاير يا حمام" لنجاة الصغيرة، أو "لو الهوى يحكي" لنجاح سلام". وحتى في الغناء الفكاهي، ترك باقة من الأعمال المميزة، ومنها تعاونه مع إسماعيل ياسين. ولا ريب أن تجربته الطويلة مع كارم محمود تعد ضمن أثرى تجارب التعاون بين مطرب وملحن، وهي كذلك متوجة بواحدة من أشهر الأغنيات "أمجاد يا عرب أمجاد" التي كانت تستهل بها إذاعة "صوت العرب" بثها وتختمه بها.

ينتمي أحمد صدقي إلى الطبقة الثانية من ملحني القرن العشرين الذي خضع تماماً لسيادة ألحان عبد الوهاب والقصبجي وزكريا والسنباطي. كما أنه مثل زميله محمود الشريف، لم يحتفِ كثيراً بالأغنيات الطويلة، ولا الأبنية اللحنية الشاهقة، لكنه ومن خلال كثير من أعماله القصيرة أو المتوسطة أوجد لنفسه موقعاً مهماً في تاريخ الغناء المصري، كما ساعده هذا التمرس بالأغنيات القصيرة على الإجادة في كثير من الأغنيات السينمائية، وربما هذا ما يفسر اشتراكه في تلحين أغنيات نحو 120 فيلماً.

ورغم مواكبته المستمرة لروح الموسيقى التي عاصرها، إلا إنه ظل طوال حياته يدافع عن القوالب الكلاسيكية القديمة، وفي مقدمتها الدور والموشح، ويرى أنها أساس التربية الفنية السليمة لكل مطرب مجيد، وأن إهمالنا هذه القوالب هو من أسباب الضعف التلحيني والأدائي الذي تعاني منه الأغنية المعاصرة.. ولم يكن الرجل من أنصار اتهام الجمهور بالإعراض عن القوالب الكلاسيكية والغناء المتقن، بل كان يعتبر أن الجمهور أسير لما تقدمه له وسائل الإعلام المركزية.

كان كثيراً ما ينتقد المشهد الغنائي الذي عاشه في سنوات عمره الأخيرة، لكن عندما سئل إن كانت "الروح" الشرقية ستبقى في الغناء، فأجاب: نعم، ستبقى الروح الشرقية ما بقيت تلاوة القرآن. في مثل هذا اليوم من عام 1987، رحل أحمد صدقي.

المساهمون