"هذا المطر لن يتوقّف أبداً": التغريبة الكردية على شاشة مكفهرّة

"هذا المطر لن يتوقّف أبداً": التغريبة الكردية على شاشة مكفهرّة

15 مارس 2021
"هذا المطر لن يتوقّف أبداً": سيرة الكرديّ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

وجود شابٍ ذي ملامح شرقية في منطقة دونباس، المتنازع عليها بين روسيا وأوكرانيا، مُحيّر. كلامه مع أعضاء فريق من الصليب الأحمر الأوكراني، بلغتهم، يزيد وجوده غرابة. تحرّكه الهادئ وسط جموع من المتضرّرين من الحرب الدائرة هناك، وهو يوزّع عليهم المساعدات الإنسانية، يُلحّ بالسؤال عمّن يكون. أجوبته الموجزة على أسئلة زميله، سائق الباص، عن سورية، وعن أشياء لها صلة بالشرق وحروبه، وهما يمضيان في طرق موحلة، تُغلّفها سماء داكنة مكفهّرة، تزيد من ارتباك المُشاهد، وتُبقي حيرته مُعلّقة بانتظار ما سيلي المَشاهِد الأولى من "هذا المطر لن يتوقّف أبداً"، الحاصل على جائزة أفضل أول فيلم طويل، في الدورة الـ33 (18 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 8 ديسمبر/كانون الأول 2020) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية".

بجرعاتٍ صغيرة، تكشف صانعته، ألينا غورلوفا، ملامح ذلك الكائن مُلتبس الهوية، المنزوي والمائل إلى الصمت. وجوده في أوكرانيا متأتٍ من تشابك ظروف حرب وصراعات وغرائب مصائر بشرية. والده، الكردي السوري، مقترن بامرأة أوكرانية. تغريبة كردية، وزّعت وجود الشاب أندريه لاجين سليمان بين أكثر من مكان. صلات القرابة، المسرّبة بلقطاتٍ قصيرة وعبارات ورادة في ثنايا كلام وحوارات، تُنبئ بشتات عائلة كردية بين ألمانيا وأوكرانيا والحسكة السورية وكردستان العراق. كلّ فرد من عائلة سليمان صار تحت نجم، وهذا مدعاة إلى تأمّلٍ سينمائي في الوجود البشري، من دون الخوض كثيراً في تفاصيل الأحوال التي أجبرتهم على الرحيل من مكانهم الأول.

على غير المتوقّع من مُنجز سينمائي عن الهجرة والحروب والصراعات المسلحة، لا أثر للدماء والأسلحة والموت فيه. التغييب مُتعمّد، استُبدل بصوت مطر لم يتوقّف أبداً، وهدير سيول جارفة تتسرّب إيقاعاتها (هندسة صوت فاسيل يفتوشينكو) إلى متن الوثائقيّ، وتُلحّ على المُشاهد الانتباه إلى وجودها المُستَفِز. حتّى السماء لا زرقة فيها، ولا شمس تشرق على أرض يباب. الأبيض والأسود طاغيان، يتوغّلان في النفوس، تُكَئِّبُها وتزيد من انطوائها.

عن هذا الجانب في أعماق الشاب أندريه سليمان، بحثت المخرجة الأوكرانية، تاركةً للمُصوّر البارع فياتشيسلاف سفيتكوف نقلها، بالأسلوب "النفسي" ذاته الذي نقلت به كاميرته مناخات "الأرض زرقاء كبرتقالة" (2020) لإيرينا تسيليك.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

يمرّ سفيتكوف بكاميرته على الحرب في سورية، والصراع المسلّح في إقليم دونباس، عبر لقطات معبِّرة، تؤشّر إلى توغّلها في النفوس. يأخذ منها ما يعزّز عاديتها بعد طول صراع. الأوكرانيون يحتفلون بأعياد نصرهم، بأناشيد وعروض عسكرية، والأكراد يتبادلون أخبار الحرب الأهلية من دون انفعال كثير. تظهر آثارها على أجساد معطوبة، وعلى الأمكنة التي تحيلها إلى خرائب، ويتسرّب وجعها إلى الأعماق، دافعةً الناس إلى الهروب منها إلى فضاءات أخرى بعيدة وغريبة.

توغل ألينا غورلوفا في إبطاء إيقاع توثيق أحداث فيلمها، بترقيم مَشاهَده من 1 إلى 9. وقبل بلوغ الرقم 10، ترجعه إلى الصفر ثانيةً. بتصفيرها العدّ، تبدو كأنّها لا تريد وضع نهايةٍ لأحداث فيلمها، ما دام رهينة صراعات بشرية لن تتوقّف، كما لن يتوقّف المطر عن الهطول.

بكشفها المتأنّي أوجاع أندريه سليمان، وإحساسه الدائم بتشتّت نفسيّ ومكانيّ، تُبطل بطولته، وتُحيله إلى كائن بارد، مُراقِب أكثر منه مُشارِك. قلّما يتحمّس لفكرة أو فعل، مع أن ما يقوم به كمتطوّع في الصليب الأحمر، في أوج شدّة الصراع المسلح في إقليم دونباس، يتطلّب شجاعة. بالروح نفسها، التوّاقة إلى كشف هشاشة الكائن في زمن الحرب، تمضي معه في رحلته إلى الحسكة، رفقة جثمان والده، الذي تَقَرّر دفنه في المكان الأول الذي شَهِد خروجه من رحم أمه إلى العالم. رحلته لدفن والده في الحسكة تعيد صلاته بأقارب له، وتُقرّبه من معرفة أسباب هجرتهم وتوزّعهم في جهات الأرض.

يمرّ بعمّه في العراق. في الطريق إلى الجهة السورية من الوجود الكردي، تُعيقه سيول مياه الأمطار من الوصول بسهولة إليها، بعد أنْ هدمت الجسر الرابط بين الجهتين. إلى عالمٍ لا يعرف عنه الكثير، يدخل، ويشعر طيلة وجوده فيه باغتراب داخلي مؤلم. يشارك شباباً أكراداً احتفالاتهم بأعياد شعبهم، كأنّه من خارجهم. الإحساس بالنفي واللا انتماء مُلتَقَط بذكاء، عبر لقطات تراعي التوازن المطلوب بين "الفرد" و"محيطه" المُتَغيّر. هذا هو بالضبط الاشتغال المراد به تصوير حالة أندريه سليمان أينما حَلّ.

في ألمانيا، اقتربت عدسات الكاميرا منه كثيراً، لأنّها أرادت نقل لحظة فرح نادرة شعر بها أثناء حضوره حفل زواج أخيه. يعرف ملتقطها أنها سرعان ما سيتلاشى وجودها، ليشعر أندريه ثانية بنفسه وحيداً، يسير بين الجموع، غريباً عن المكان، كوالده وعائلته الكردية.

المساهمون