"في تدفّق الكلمات": هل تسمعني؟

"في تدفّق الكلمات": هل تسمعني؟

14 مايو 2022
يعتمد الفيلم على شهادات سمعية منقولة عن ضحايا الحرب (يوتيوب)
+ الخط -

"سأكون ضحية. احْمني من ذلك. هذا الرجل اعترف بأنّه كان يعذّب ضحاياه. اعترف بأنّه كان يضع فأراً على بطن الضحية، ووعاءً فوق الفأر، ثم يبدأ الطرق فوق الوعاء، فيُصاب الفأر بالجنون. لكي يهرب من هذا الإرهاب، عليه أنْ يحفر في بطن الضحية ومعدتها التي لا تزال على قيد الحياة. هل هناك أبشع من ذلك؟ أرجوك. لا أريد أنْ أكون مع هذا الرجل في الزنزانة. سأكون ضحية إنْ أصبحت أنا والمجرم في غرفة واحدة".

إنّها كلمات أحد المترجمين في المحاكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، في لاهاي، الذي كان يرفض أنْ يكون في الحجرة نفسها التي فيها أحد المجرمين الصرب، ويُصرّ على أنْ يكون في غرفة منفصلة، حماية لنفسه، لأنّه عاش هذه الحرب، ويعرف الناس قبل 15 عاماً. لذلك، وجوده مع المجرم في قاعة واحدة، لم يكن يخلق شعوراً بعدم الارتياح فقط، بل سيجعله يشعر بأنه غير آمن.

هذا مشهد في الوثائقي الهولندي القصير "في تدفّق الكلمات" In Flow of Words، لإليان إستر بوتس. فيلمٌ رقيق جداً، وإنساني وشاعري رغم قسوة موضوعه. ينطوي على التجريب في البحث عن المعادل البصري الذي يبدو شحيحاً لكنّه مؤثّر ومُعبّر وصادق. عمل يمنح حيّزاً كبيراً لشريط الصوت الذي يُعيد خلق الجانب البصري، ويُضاعف من قوّته، ويدعم تأثير شحنته العاطفية. اختيار يتناسب مع ثيمة الفيلم الذي يعتمد على شهادات سمعية منقولة عن ضحايا الحرب، عبر ثلاثة مترجمين فوريين لهؤلاء الضحايا والشهود الذين يتحدثون عن وقع الكلمات وأثرها عليهم في تلك المحاكمة الدولية.

أحد المترجمين لا يظهر أبداً وهو يتحدّث، في لعبة إخفاء. لكنّ صوته وحده كافٍ للتماهي معه. ينطلق الفيلم من صوته، مع شاشة سوداء، قائلاً: "لو أردتُ أنْ أصنع فيلماً عن نفسي، سأختار أنْ أكون (فويس أوفر) (مُعلِّق من خارج الكادر). هل تسمعني؟ هل تسمعني؟ لا يوجد أي إنسان في أي محادثة يُمكنه أنْ يُصغي قدر ما أفعل أنا. أيّ شيءٍ يخرج من فمك يكون مهمّاً. فجأة، تصبح أفكارك أفكاري. أُصبح أنا أنت".

في مَشاهد مُكثّفة، لاحقاً، يحكي هذا المترجم عن انهيار الحصانة والدروع التي كان يُحاول فرضها حوله، لحماية نفسه من التورّط عاطفياً، بوضع مسافة بينه وبين ما يدور في المحكمة، كأن يكون في غرفة زجاجية معزولة عما يدور في المحاكمة. هنا، مُجدّداً على لوحة سوداء، "يُسمَع" دخول القضاة إلى القاعة، وحركة نهوض الحاضرين، وصوتٌ يُعلن: "بدء المحاكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة منعقدة الآن"، ثم لقطة لغرفة المترجم ومقعده الخالي والميكروفون، بينما يقول: "أنا بأمان في الفقاعة التي تحيطني، بين جدران الغرفة الزجاجية. لكنْ، فجأة، قال الشخص الذي كنت أترجم كلامه شيئاً اخترق الزجاج، واخترقني، وصدمني، إلى درجة شعرت معها أنّي لو نطقت كلمة واحدة ستنهار الدموع، وسيصبح صوتي غريباً واهناً وغير مفهوم. توقّفت، وأعطيت الميكروفون لزميلي، ليُكمل الترجمة. تذكّرت أنّه، في أحد أيام المحاكمة، شاهدت فيديو لجنود صربيين يُرغمون سجيناً بوسنياً مسلماً على أنْ ينادي المسلمين المختبئين في التلال المجاورة، قائلاً لهم: تعالوا إلى هنا. قوات الصرب لن تُسبّب لكم أي أذى. لن يفعلوا لكم شيئاً. اخرجوا. تعالوا". يواصل المترجم كلامه: "شاهدتُ الفيديو 7 مرات بحكم عملي. أعرف مكان المقبرة التي تضمّ رفات هذا السجين، والذين كانوا يختبئون في التلال، بعد أنْ عذّبهم الصرب وقتلوهم".

إذا كان صوت المترجم أكثر بلاغة، لقدرة كلماته على ابتكار صُورٍ بصرية مشحونة عاطفياً، رغم الشاشة السوداء، فإنّ المترجمة الثانية اختارت استخدام رموز وتماثيل للبوح عن مشاعرها إزاء الشهادات المروّعة للشهود والضحايا والجناة. تُخرج من حقيبتها تمثالاً لرجلٍ يبدو كأنّه البطل الخارق، معتبرة إياه كالمحامي في قاعة المحكمة، فهو الذي يقود ويتحكّم في الموقف كلّه، ثم تُشبّه الشهود بالثيران أو الحيوانات لأنّهم يتّسمون بالهشاشة، فهم ضحايا الحرب، ثم تُشبّه نفسها بالمزهرية، لأنّ وظيفة المزهرية احتواء الزهور، وهدفها الوحيد كمترجمة يكمن في تيسير الأمور، وإقامة التواصل بين الطرفين.

يتحدث مترجمٌ ثالث عن خبرته، قائلاً: "اكتشفتُ أنّ الجلوس مهمّ في الوسط بين العميل القانوني والضحية. لا أنظر أبداً إلى أيّ منهما. أُنحِّي نظري جانباً، لأنّي لا أريد أنْ تنظر الضحية أو الشاهد إليّ ويقول: أنتَ اشْرَح له. أنت بوسنيّ، مررت بتجربة الحرب، فاشرَحْ له كيف حدثت هذه الأشياء كلّها، وأنا لا أستطيع شرح شيءٍ لأي شخص. أنا لم أكن هناك. أنا مجرّد هاتفٍ عظيم. مجرّد قناة تواصل. مع ذلك، أعترف أنّي سمحت لنفسي، مرّات عدّة، بالنظر إلى الضحية، فيبدأ شعورٌ فيّ به، وهذا لم يكن جيداً أبداً".

رغم قصر مدّته، يتضمّن "في تدفّق الكلمات" شهادات عدّة مفزعة، منها حكاية المقابر الجماعية الضخمة، وتسريب صُور عنها، التقطها سجينٌ تمكّن من تهريب كاميرا التقط بها بعض ما كان يحدث من تعذيب وجراح السجناء، آملاً أن ينجو ذات يوم، فيكون معه دليل على ما حدث، خوفاً من أنْ يأتي آخرون ويُنكروا حدوث إبادة شعب البوسنة.

سينما ودراما
التحديثات الحية

هناك قصّة حارسٍ، يستقيظ عند السادسة صباحاً، ويأخذ سجيناً شاباً في صندوق السيارة، ويظلّ يغني في الطريق، وعندما ينتهي من الغناء، يأخذه رفيقه إلي الغابة ويُطلق الرصاص عليه. هنا، يصرخ المترجم مُتسائلاً: "بحقّ السماء، مَنْ يكون هذا الإنسان الذي يستيقظ الساعة 3 أو 4 أو 5 فجراً كي يقتل إنساناً بريئاً؟"، ثم يضيف: "بعد سماعي تلك الحكاية، عُدت إلى منزلي، واحتسيت خمراً كثيراً. لمدة شهر، عشتُ متأثّراً بالخمر. كنتُ سكراناً تماماً، وحزيناً على ذاك السجين البريء، لأنّه لم يكن له أحدٌ يحزن عليه".

ويضم الفيلم مقاطع صوتية عدّة من شهادات أمهات مكلومات، تعرف إحداهنّ أنّ أبناءها قُتلوا، وتريد أنْ تعرف مكان رفاتهم؛ وأخرى تجهش بالبكاء، قائلةً: "أستيقظ كل يوم، وأضع يدي على عيني كي لا أرى الأطفال الذاهبين إلى المدارس برفقة آبائهم، بينما أنا حُرِمت أبنائي وزوجي".

تختم إليان إستر بوتس فيلمها بحكايةِ مُترجِمةٍ عن طبيبين اثنين محبوسين في مرحاضٍ، يأتي الحارس إليهما ليضربهما بحدّة، حتّى الموت. لتأثّرها بتلك الحكاية، كانت المترجمة تحلم بأنّها محبوسة في مرحاضٍ، وأنّ أحدهم يدقّ الباب عليها، ما أرّقها وأقلقها، فتواصلت مع جدّتها التي فسّرت لها ذلك بالقول إنّ الملائكة تدقّ على بابها لتخبرها بأنّها تُؤدّي وظيفتها بشكلٍ جيد، وهذا أثار الحماسة في المترجمة، ومنحها قدرة على إنجاز وظيفتها على أكمل وجه، حتى لو كان مَنْ يدقّ على الباب أشباح الماضي.

المساهمون