"طنطورة": فضحُ مجزرةٍ بالعلم والوقائع

"طنطورة": فضحُ مجزرةٍ بالعلم والوقائع

05 اغسطس 2022
تيودور "تيدي" كاتس: نادمٌ على اعتذاري لغاية اليوم (فيسبوك)
+ الخط -

 

المطّلعون على مجزرة الطنطورة، الحاصلة ليلة 22 ـ 23 مايو/أيار 1948، يعرفون تفاصيل كثيرة عنها، أقلّه منذ شيوع حكاية الطالب الإسرائيلي تيودور "تيدي" كاتس، وبحثه الأكاديمي، المختصّ بـ"رحيل/هجرة جماعية للعرب من قرى السفح الجنوبي لجبل الكرمل" (قسم "تاريخ الشرق الأوسط"، جامعة حيفا). أطروحة تُناقَش أواخر عام 1999، بعد نحو عام ونصف عام على تسجيلها، ينتبه إليها صحافي يُدعى أمير غيلات، فينشر، في الصحيفة اليومية الإسرائيلية "معاريف" (21 يناير/كانون الثاني 2000)، مقالة طويلة مستمدّة منها. هذا يفتح أبواب الجحيم على الطالب، الذي يُسجِّل لقاءات له مع نحو 200 جندي في لواء ألكسندروني، وبعضهم يرتكب المجرزة، أو يُشارك فيها، أو يشهد وقائعها.

الوثائقي "طنطورة" (2022، 95 دقيقة)، للإسرائيلي آلون شفارتس، يستعيد مضمون الأطروحة عن المجزرة، ويلتقي كاتبها، ويحصل منه على أشرطة الـ"كاسيت"، المُسجَّلة قبل 20 عاماً على بدء تحقيق الفيلم، والمشاركون في تلك اللقاءات ينتمون إلى جيل واحد، فهم في السبعينيات من أعمارهم عند التسجيل، في منتصف تسعينيات القرن الـ20: "يُمكنك أنْ تأخذ الأشرطة وتستمع إليها. لكنْ، إذا كنتَ تريد أنْ تصنع منها فيلماً، فانتبه، لأنهم سيُلاحقونك كما لاحقوني"، يقول تيدي لشفارتس.

ما يفعله شفارتس يتجاوز الاشتغال الأكاديمي لكاتس، ويُكمله. مقالة "معاريف" تؤدّي إلى بداية حربٍ قاسية على طالبٍ، يتفوّق في جامعته بفضل بحثه الأكاديمي هذا، قبل أنْ "تُنهي" جامعة حيفا، فعلياً، مسيرته الأكاديمية، مُلغيةً "حقّه في الحصول على لقبٍ بحثيّ"، بعد اشتداد الحملات عليهما (الجامعة وتيدي). المؤرّخ إيلان بابيه داعمٌ له باسم "حرية البحث الأكاديمي"، في مواجهة المؤرّخ يوآف غِلْبِر، أحد أكثر مهاجمي كاتس، والساعين إلى تحطيمه (يرفض الاستماع إلى أقوال الجنود، ساخراً من اعتماد كاتس على شهادات شفهية، يعتبرها غير صالحة لتأكيد الحاصل). لكنّ "الوحش" الإسرائيلي أقوى، والضغط على كاتس أعنف. نتيجة هذا متمثّلة بـ"اعتذار"، يصفه كاتس، مباشرة بعد إلقاء نصّ "رسالة الاعتذار" أمام الكاميرا، بأنّه "أكبر خطأ اقترفته في حياتي"، مُضيفاً أنّه، "من دون شكّ" لا يزال "نادماً على ذلك لغاية اليوم"، مُشدّداً على مفردة "جداً".

"طنطورة" آلون شفارتس يتوسّع أكثر في مقاربة اعترافات جنود لواء ألكسندروني، وبعض الاعترافات مزيجٌ من رفض التذكّر والتعامل "العادي" مع مقتلةٍ بحقّ مدنيين، وصولاً إلى إنكارها، بإحالتها إلى تعبير "هكذا قيل". لقاءات مباشرة يُجريها شفارتس مع بعض هؤلاء، ومنهم من يروي حكاياته مع ضحكةٍ تشي بخليطٍ ملتبس بين عجرفة وتعالٍ وتسلّط، وسخرية وألمٍ وقلق من ديمومة التذكّر. علاقة بعض هؤلاء بنفسه وزوجته مثلاً "مُخيفة"، لكونها تائهةً بين قناعة بالحاصل سابقاً، وهذا خطر ومُقلق، وإنكار للجريمة، وهذا أخطر وأكثر إثارة للقلق. فالحاصل، بالنسبة إلى هؤلاء، حربٌ، وفي الحرب تُرتَكب "أخطاء"، تكون مجازر. أحد هؤلاء يضحك ساخراً أمام الكاميرا، ردّاً على سؤال شفارتس له إنْ تعلم زوجته بمشاركته في المجزرة: "أتريدني أنْ أخبرها أنّي قاتل؟".

شفارتس، الذي يبدأ تحقيقه الوثائقي من اشتغالات تيدي كاتس، يتجوّل في جغرافيا المنطقة، بدءاً من "كيبوتس نحشوليم"، المُقام على أنقاض الطنطورة، وصولاً إلى الفريديس، القرية العربية المجاورة لها. والجولة غير مُكتفية بالجغرافيا والتاريخ، فالعلِم حاضرٌ أيضاً في استخدام تقنيات حديثة لفهم صُورٍ فوتوغرافية قديمة وجديدة لموقع المقبرة الجماعية، الذي يُبنى فوقه موقفٌ للسيارات. تقنيات تقول علمياً إنّ هناك تغييرات في الأرض حاصلةٌ (هذا مؤكّد)، بعد ردم المقبرة الجماعية (بعض التردّد لدى العالِم لن يحول دون تأكيد شبهٍ كامل لوجود المقبرة).

"طنطورة" غير مكتفٍ بالمجزرة، وبالحاصل قبل ارتكابها وأثناء ارتكابها، وبعده. قصصٌ، يرويها شهودٌ ومرتكبون إسرائيليون، مُخيفة ومؤثّرة، والإنكار أو التراجع أو الرغبة في النسيان تتساوى كلّها، في الجُرم، مع المَقتلة بحدّ ذاتها. آلون شفارتس يذهب إلى "نحشوليم" أيضاً، متحدّثاً مع أفرادٍ قلائل (تراوح أعمارهم/أعمارهنّ بين 85 و90 عاماً)، يُقيمون في الكيبوتس منذ "حرب الاستقلال"، كما يُسمّي الإسرائيليون "نكبة 48"، ويريدون تذكّر الأشياء الجميلة فقط، ويُشيرون إلى عدم معرفتهم بالحاصل قبل بناء المستوطنة، قائلين بسماعهم خبريات غير مؤكّدة فقط.

 

 

مع هؤلاء، يطرح آلون شفارتس سؤال الذاكرة والتاريخ والشيخوخة. المقارنة قاسيةٌ بين "حقّ" الاسرائيلي في تذكّر "الذين ضحّوا بحياتهم في هذا المكان في حرب الاستقلال، 23 مايو/أيار 1948" (نصب تذكاريّ في الكيبوتس نفسه) وإقامة نُصبٍ يحول دون نسيانها، وبين "عدم حقّ" الفلسطيني في ترجمة التذكّر إلى نُصبٍ. للإسرائيلي حقٌّ في الاحتفال السنوي بتاريخه وذاكرته، بينما الفلسطيني يُمنع من ذلك. كلامٌ يُقال في هذه الفقرة يُدرَجُ في سياق مفهوم شعبي عادي لمعنى الذاكرة والنُّصب التذكاري، وللعلاقة بأرض وبلد تخصّان شعباً يتعرّض لقتلٍ وتهجير وإساءات جمّة.

تيدي كاتس ـ المُصاب بأكثر من جلطة (أوّلها مع بداية الحملة العنيفة ضده) في جانبه الأيمن، تجعله نصف مشلول ـ يُخبر آلون شفارتس أنّ اسمه يعني تيودور، وأنّ اختيار والديه هذا الاسم منبثقٌ من رغبتهما في "تكريم" تيودور هرتزل. هذا غير عابر. هذا يقول شيئاً عن تربية وسلوك وثقافة، يخرج تيدي لاحقاً منها، ولو قليلاً، كأنّه ـ ببحثه الأكاديمي هذا ـ يؤكّد قولاً لإيغال آلون، العسكري والسياسي الإسرائيلي: "الشعب الذي لا يعرف ماضيه، فقيرٌ في حاضره، ويتّجه إلى مستقبلٍ يلفّه الضباب" (هذا مكتوب في "جينيريك" البداية). الردّ على القول حاصلٌ في الدقائق الأخيرة من "طنطورة"، إذْ يُشار إلى أنّ الاعتراف ضروري، ويُكتب أنّه، في عام 1948، "ارتُكبت فظائع بحقّ الفلسطينيين"، كالسلب والنهب والطرد والمجزرة: "هذا أمر لا يزال لا يومض حتّى في أفق الحياة العامة الإسرائيلية".

للفلسطيني حضورٌ في "طنطورة" أيضاً. أم رسمي، المولودة في البلدة الساحلية المنكوبة، والمُقيمة في الفريديس، تروي بعض ما تتذكّره تلك الليلة، صغيرةً تهرب مع أفراد من عائلتها. تقول إنّها غير شاهدة على مجزرةٍ، بل مستمعة إلى إطلاق رصاص: "لم أرَ شيئاً لأنّي خفتُ من الرصاص وهربت". فؤاد حصّادية (من سكّان الفريديس) يروي بعض المُتراكم فيه عن أحداثٍ قديمة، وعن راهنٍ يُراد له أنْ يمحو التاريخ والذاكرة: "الجميع يعرفون، ولا أحد يفعل شيئاً. أين العدل؟"، يقول بحدّة وغضبٍ.

"طنطورة" آلون شفارتس مليء بمعطيات وكلامٍ وانفعالاتٍ وتفاصيل يصعب اختزالها. اشتغاله السينمائي يلتزم مفهوماً متطوّراً للفيلم الوثائقي، من دون ابتعاد كلّي عن سماتٍ تقليدية في صُنعه. أسوأ ما فيه موسيقاه، فالمقطوعات كثيرة، تقف حاجزاً بين المشهد والمُشاهد أحياناً عدّة. لكنّ إحدى ميزاته كامنةٌ في أنّ التزامه الشديد بمعرفة الحاصل لن يبلغ مرتبة "جَلد الذات"، أو تقديم تيدي كاتس "بطلاً ملعوناً". فالأهمّ كامنٌ في كشف حقائق وسرد وقائع، مُحصّنة بمستندات وتسجيلات ووثائق وعلمٍ، وفرتُها كفيلةٌ بتوثيقٍ بصري لمجزرة، ولسياق متكامل في التاريخ والحياة والثقافة والوعي والمعرفة والسلطة والوحش والعنف، تعيشه إسرائيل، ويعيشه الفلسطينيون في احتلالٍ غير متمكّن من إلغاء تاريخ وذاكرة، رغم جهودٍ جبّارة له في تحقيق هذا.

المساهمون