أسئلة السينما الفلسطينية: انقلابات صُوَر وتحوّلاتها

أسئلة السينما الفلسطينية: انقلابات صُوَر وتحوّلاتها

15 ديسمبر 2021
نجوى نجّار: أسئلة المرأة الفلسطينية وحقوقها (غارث كاترْمُل/Getty)
+ الخط -

 

أفلامٌ فلسطينية عدّة تُثير سجالاً، يغلب عليه السياسي والاجتماعي والأخلاقي. المواضيع المختارة تُصيب حساسية فردٍ وجماعةٍ، فتغيب السينما، غالباً، إزاء موضوعٍ يرفض البعض المسّ به، وإنْ يكن المُنجز السينمائيّ متوافقاً مع وقائع وعيشٍ وانفعالاتٍ وتأمّلات وتفكير.

هذا معلومٌ. في لحظة استمرار فلسطينيين وفلسطينيات كثيرين في نضالهم ضد احتلالٍ ـ يتفنّن، يوماً تلو آخر، في ابتكار أعنف الوسائل لقهر شعبٍ يتمكّن، في المواجهة، من إفشال مخطّطاتٍ كثيرة له ـ يتحوّل كلّ فيلمٍ عن فلسطين ومنها ولها إلى سجالٍ، بعضه خالٍ من كلّ قراءة نقدية، يُفترض بها أنْ تُساوي بين السينما والفكر والمادة الدرامية. لحظة حاضرة في الوجدان والعقل والانفعال منذ بدايات الغزو الاستيطانيّ الصهيوني (مطلع القرن الـ20)، ومستمرّةٌ منذ "نكبة فلسطين" (15 مايو/أيار 1948). لحظة تقول إنّ أشكالاً إسرائيلية للقتل والتهجير والإقصاء والتغييب والتزوير تؤدّي، حتماً، إلى أشكالٍ فلسطينية لمقاومة يومية تبتكر، بدورها، بعض أجمل صُور التحدّي والمقارعة والتصدّي.

السينما الفلسطينية جزءٌ من حرب البقاء والمقاومة. بعض تلك السينما مصنوعٌ في دول عربيّة، أغزرها إنتاجاً لبنان، مع سينمائيين وسينمائيات ملتزمين فلسطين وناسها وقضاياهم، إنسانياً وأخلاقياً وثقافياً وحياتياً. الغالبية الساحقة للنتاج السينمائي العربي وثائقيّ، يُسمّى حينها (ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته وثمانينياته) تسجيلياً. النَفَس السينمائي، لغة وتصويراً وتوليفاً ومعالجة، يتطلّب وقتاً طويلاً لتحويل التسجيلي إلى وثائقي، يمزج صُوراً وذاكرة وحكايات واختبارات بصرية، ليقول واقعاً، ويُوثِّق سينمائيّاً حقائق وتفاصيل. الوثائقي الفلسطيني الحديث يخرج من تقليديته إلى المساحة الأوسع والأجمل للفنّ البصريّ، أي التحرّر المطلق من قواعد ثابتة، لاشتغال حيوي على الذات وارتباطها بذاتها أولاً، وبمحيطين بها، وباجتماع وبيئة وبلدٍ وتاريخٍ وراهنٍ، بأدوات سينمائية تصنع خليطاً من التوثيق البحت والحِيَل الفنية والجمالية والبصرية (بمعناها الباهر)، تلك التي ترتكز عليها صناعة السينما أصلاً.

الشخصية الفلسطينية في السينما، المرتبطة بفلسطين وناسها وقضاياهم، محدّدةٌ لفترة طويلة بصورتين اثنتين: المناضل والضحية. أفلامٌ تسجيلية كثيرة غير متحرّرة من هاتين الصورتين، فالحالة العامة غير قابلةٍ لأي صورة أخرى عن فلسطينيّ ثائر وفدائي ومناضل، أو عن آخر يعاني أهوالَ قمعٍ وبطشٍ ومنعٍ في دول عربية يلجأ إليها منذ نكبته تلك، أو في بلده المحتلّ. الأموال الفلسطينية المتوفّرة في بيروت مثلاً، في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، تبدو كأنّها حائلٌ دون خروجٍ آمنٍ من صورتَيْ الفلسطينيّ، إلى تعاملٍ مطلوبٍ مع الفلسطينيّ كإنسان، له حسنات وسلبيات، في الثورة والمواجهة والكفاح، وفي عيشٍ يومي في مخيمات ومدن وبقاع يحتلّها الإسرائيليّ منذ 73 عاماً. السينما حينها منفَضّةٌ، كلّها تقريباً، عن صُوَر أخرى، غير المناضل والضحية.

أوّل تحوّل فعلي حاصلٌ عام 1987، مع ميشال خليفي و"عرس الجليل". التعمّق في أحوال بيئة اجتماعية فلسطينية، مُحتلّة من الإسرائيليين، يكشف بعض مصائب تربية وسلوك يستندان إلى ذكوريّة معروفة في الاجتماع العربي. تربية وسلوك فلسطينيان يؤدّيان إلى عجزٍ فرديّ، يزداد حدّة بسبب الاحتلال. عجزٌ تُساهم المرأة ـ بشفافيتها وصدقها ورغبتها المبطّنة في انتقامٍ ما من سطوة الرجل ـ في التستّر عليه لإبقاء الرجل في مكانته أمام أهل وعائلة وأقارب وبيئة، ولحماية نفسها من بطش هؤلاء.

هذا لن يكون اختزالاً كلّياً للفيلم، بقدر ما يُقدِّم جزءاً أساسياً منه، للإشارة إلى أنّ كَسْرَ مسارٍ سينمائي فلسطيني عربي، يُمعن في اشتغالاتٍ على صورتي المناضل والضحية، يبدأ من التفاتٍ صادقٍ وعميق وشفّاف إلى الذات الفلسطينية، بحثاً في مآزقها وآلامها وأحوالها وعيشها وأحلامها ومخاوفها وهواجسها، من دون التغاضي عن عاملٍ سلبي أساسي، يتمثّل بالاحتلال.

 

 

كَسْرٌ كهذا مُكلِفٌ، فالثقافة السائدة تحول دون تنبّه وتنبيهٍ إلى أولوية الذات الفلسطينية، جسداً وروحاً ووعياً وتربيةً وسلوكاً وثقافةً وعلاقات وانفعالات. كلفة كَسْرٍ كهذا تظهر في حملةٍ قوية ضد الفيلم ومخرجه، قبل مرور وقتٍ على إعادة النظر في مضمون "عرس الجليل"، وتمكّنه ـ بلغة سينمائية متماسكة إلى حدّ بعيد ـ من معاينة أحد تابوهات الاجتماع العربي، أي ثقافة المجتمع الذكوري وقواعد تربيته ونتائجها. يمرّ وقتٌ قبل منح "عرس الجليل" مكانته التي يستحقّها، لجماليته السينمائية الهادئة والمتواضعة، ولقوّة مضمونه وتمكّنه من التحريض على التفكير والمساءلة المتعلّقين بالذات الفلسطينية، وإنْ بعد حين.

كَسْرٌ آخر يبرز منتصف تسعينيات القرن الـ20، مع إيليا سليمان، الذاهب بعيداً في تفكيك الاجتماع الفلسطيني، وفي قراءة واقعه وبناه الثقافية والتربوية والمعيشية، وفي كشف حقائقه المتمثّلة بسلوكٍ ونمط عيش وعلاقات. هذا يحضر في "سجل اختفاء" (1996) ويد إلهية" (2002) تحديداً، من دون أن يخلو "الزمن الباقي" (2002) و"إنْ شئت كما في السماء" (2019) منه أيضاً. الإسراف في التفكيك والقراءة والكشف لن يُغيِّب العامل الإسرائيلي، ومصائب احتلاله. المأزق الفلسطيني منبثقٌ من الذات الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وهذا واقعٌ وحقيقة. الاجتماع الفلسطيني، كأي اجتماع عربيّ، فيه تخبّطات وموروثاتٍ وتراكمات، تُنتج حالاتٍ مختلفة وواقعية من الناس والمسالك والتفكير، يُضاف إليها الفعل الإسرائيلي الهادف إلى محو الهوية الفلسطينية وشطب الفلسطيني، من دون طائل.

مع "المرّ والرمان" (2010) لنجوى نجّار، يُطرح سؤالٌ يُصيب حساسية الفلسطينيّ بحدّة أكبر: أيجوز لزوجةِ أسير أنْ تشعر بانفعالٍ إزاء رجلٍ آخر؟ أيجوز لامرأة فلسطينية الاستمرار في ممارسة ما تحبّ وترغب فيه (الرقص)، بعد اعتقال زوجها؟ أيجوز للمرأة الزوجة أنْ تقول ما تشعر به، وأنْ تبوح بانفعالٍ وعاطفةٍ؟ أيُمكن لهذا أنْ يُهين المرأة الزوجة، أم أنّه تعبيرٌ عن الإنسان فيها؟ "الجنّة الآن" (2005) لهاني أبو أسعد يطرح، بدوره، أسئلةً تتضمّن جوهر المسألة، أي الإنسان في الفلسطينيّ: العمليات الاستشهادية والعمالة لإسرائيل. سؤال مطروحٌ من داخل الفرد وذاته، ومن هواجسه ومخاوفه، ومن نزاعات تنتابه ـ إزاء ثقلٍ عليه بسبب أبٍ أو مجتمع أو بيئة ـ بين شعور بذنبٍ غير مرتَكِبٍ إياه (عمالة أبٍ لإسرائيل) وخوفٍ كبير من تنفيذ عملية استشهادية، تكفيراً عن ذنبٍ كهذا، أو بسبب العملية نفسها.

غسان كنفاني يسبق هؤلاء جميعاً في محاولة التفاتٍ إلى الذات الفلسطينية وأسئلتها الكثيرة، وبعض الأسئلة منبثقٌ من الاحتلال الإسرائيلي. في "عائد إلى حيفا" (1970) ـ المتحوّل إلى فيلمٍ بعنوان "المتبقي" (1996) للإيراني سيف الله داد ـ يُشير الروائي الشهيد (1936 ـ 1972) إلى معضلة أخلاقية وثيقة الصلة بالتهجير الفلسطيني، إذْ يهرب الفلسطيني من بطش العصابات الصهيونية (1948) تاركاً ابنه الرضيع في منزلٍ، تحتلّه عائلة يهودية تتبنّاه وتُربّيه وتجعله جندياً إسرائيلياً، "يصعب" عليه التخلّي عن تاريخه هذا، رغم أنّه، بيولوجياً، فلسطينيٌّ.

إذاً، تفشل البيولوجيا في حماية الهوية الفلسطينية، على نقيض فشلها في منح مُراهِقةٍ هويةً إسرائيلية، رغم أنّ النطفة التي تُنجبها عائدةٌ إلى جندي إسرائيلي، في "أميرة" (2021) للمصري محمد دياب.

لكنّ "أميرة" غير محصور في هذه المسألة، فالسياق والمعالجة وبعض الحوارات غير متوافقة مع واقع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وغير منتبهةٍ إلى أنْ لا مساواة إطلاقاً بين مُحتلّ وشعبٍ يواجه المحتلّ، دفاعاً عن حقّ يريد المحتل انتزاعه منه. المقارنة بين نصّ كنفاني وفيلم دياب غير جائزة، لكنّ سؤال البيولوجيا وحده مطروحٌ، و"أميرة" برمّته محتاجٌ إلى نقاشٍ نقديّ أوسع وأعمق، لن يقف عند مضمونٍ وآليةِ تناولٍ وكيفيةِ معالجة، بل ينصرف إلى اشتغالاته السينمائية، وإلى المبطّن فيها، وهذا المبطّن مليءٌ بما يستدعي نقاشاً نقدياً أوسع وأعمق.

في "أميرة" ما يُثير جدلاً كبيراً. مسألة "النُطف المحرّرة" أكثر المسائل الفلسطينية حساسية في الربع الأول من القرن الـ21، لأنّها جزءٌ إضافي من أفعال المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، لا يزال عصيّاً على المحتلّ الإسرائيلي التصدّي له. مقاربة المسألة تحتاج إلى أكثر من التزامٍ، أخلاقي وثقافي وإنساني وفكري، بفلسطين وناسها: تحتاج إلى بحثٍ ولقاءاتٍ مع صانعي هذا الجزء المهم، والتنقيب في أحوال وحالاتٍ، ربما يُفضِّل الفلسطيني والفلسطينية عدم تناولها البتّة.

السابق محاولة تدعو إلى استعادة بعض مسار سينما فلسطينية، تتمكّن من اختراق حواجزَ أخلاقٍ واجتماعٍ وتربيةٍ، لتقول شيئاً من واقعٍ، فيه خلل وارتباكات وأعطاب، كما فيه حيوية واشتغال ومواجهات. سينما تقول إنّ الفلسطيني إنسانٌ أولاً، بعد سنين حافلة بوضعه في إطاري النضال والضحية، وهذان الإطاران ـ الصورتان مهمّان أيضاً، لكنْ من دون إيغالٍ في قدسيّةٍ غير لائقة بهما، فالمناضل إنسانٌ أولاً، كما الضحية.

المساهمون