عن السينما الفلسطينية: الجرح صُوَرٌ وحكاياتٍ

عن السينما الفلسطينية: الجرح صُوَرٌ وحكاياتٍ

05 يوليو 2021
شيرين دعيبس: تجريب جمالي (سبنسر وينر/ Getty)
+ الخط -

 

أيّ سؤال يُطرح اليوم، عربياً، حول السينما الفلسطينيّة في القرن الـ20، يستحيل أنْ يخرج عن سياقه التاريخي، المُتمثّل في كلّ أشكال المقاومة، وأنماط تحرير الأرض من الاستيطان الإسرائيلي. فالسينما، في التاريخ المعاصر لفلسطين، أدّت دوراً مهمّاً في مقاومة الاستعمار، إبان ما سُمّي بأفلام الثورة الفلسطينيّة. ورغم غلبة التسجيليّ المباشر، غير المُستند إلى أشكالٍ فنيّة وتوليفات إبداعية بصريّة، أخرج هذا النوع السينمائي، المرافق لبدايات الثورة المسلّحة، العملَ المسلّح من بيئته، ليرتاد آفاقاً أخرى، تضعه في طليعة الأحداث السياسية العالمية، أمام كاميراتٍ، بدت منشغلة بيوميات الواقع، وما يطبعه من تشرذم وتمزّق وتنكيل بحقّ أعدادٍ غفيرة من الأسماء، التي استُشهدت في المعركة، وهي تحلم بغدٍ فلسطينيّ أفضل.

لم يكُن لسينما واعدة، تتطلّع بعنفوانٍ إلى تأسيس أوّل قسم للتصوير، أنْ تُشيح نظرها إلى ما يرجّ في الواقع الفلسطينيّ من نكبات وتصدّعات. هكذا جاءت كافّة الصُوَر السينمائية، من دون استثناء، في تلك المرحلة، أكثر التحاماً وتجذّراً في البيئة الفلسطينيّة. لكنْ، ما يُميّز هذه المرحلة المضطربة في تاريخ السينما الفلسطينيّة، يكمن في روح التعاون، الناشئة بين مخرجين ومصوّرين، أمثال مصطفى أبو علي وجان شمعون وهاني جوهرية وسلافة جاد الله وسمير نمر. وما وسم تجربة سينما الثورة الفلسطينيّة، ابتداعها لغةً بصريةً مختلفة، أقرب إلى الجماهير الهلامية، في التحامها بالثورة، وتموّجها في أوساطٍ ثقافيّة وإعلامية، رغم أنّ الجانب التقريري في التصوير حاضرٌ بقوّة، ويرتكز أساساً على صُوَر الشهداء وبعض الثورات والمظاهرات السياسية، التي شهدها البلد، قبل معركة الكرامة عام 1968.

من الأشياء التي حالت دون تحقيق قفزة جماليّة نوعية، في أفلام الثورة، أنّ منطلقاتها لم تكُنْ جماليّة بل سياسية، بتحويل الكاميرا إلى أداة تخدم الواقع، وما يشهده من غليان. هذا حدست له "وحدة أفلام فلسطين" (أو "فرسان السينما"، بحسب الكاتبة الأردنية خديجة حباشنة)، من خلال ما كانوا يقومون به من دورٍ في تأييد العمليات الفدائية ومؤازرتها، بأدواتهم التصويرية البسيطة. فالسياق السياسي آنذاك يفرض هذا النوع من التصوير التسجيلي، المُلتحم بالواقع الفلسطيني، وتحوّلاته السياسية والاجتماعية.

سينما هذه المرحلة تُعتبر أكثر المصادر البصريّة اهتماماً من كُتّابٍ ونقّاد وباحثين ومؤرّخين، يتوسّلون منها صُوراً فوتوغرافية وملصقات فنيّة وأفلاماً تسجيلية، للتأريخ للراهن الفلسطيني، وكتابة تاريخ وطني أقرب إلى الحقيقة. هذا التراث السينمائي للثورة الفلسطينيّة لا يزال يُستخدم، إلى اليوم، كتعلّةٍ لإدانة الجرم الإسرائيلي، وتفكيك ميثولوجياته الاستعمارية. إنّه أرشيف حيّ، وشاهد على مرحلة لم يندمل جرحها بعد، وإنْ سُرِق جُلّ الأرشيف في الحرب الأهلية اللبنانية، والحصار الخانق الذي شهدته مخيّمات فلسطينيّة في بيروت منذ منتصف ثمانينيات القرن الـ20. على هذا الأساس، يُلاحظ المُتأمّل للأفلام الفلسطينيّة القديمة (1970 ـ 2000) أنّ عملية التخييل السينمائي ترتبط بأحداث تاريخيّة واقعية أولاً، لتحريكها الصورة السينمائية، وجعلها تتوغّل في أتون ذاكرة الواقع، بكل تناقضاته ونتوءاته. الحدث الواقعي شرطٌ أساسيّ في صوغ أفق سينمائيّ، يتبرّم مراراً من البُعد التسجيلي، لكنّه يسقط سريعاً فيه. هذا الأمر لا يرتبط بالمخرج، أو بنجاعته من عدمها، في تخيّل صورٍ ـ أصوات ـ حكايات، بل بعنف الواقع اليومي، الذي يجعل فعل التخييل عنصراً مُغيّباً.

شهد المُنجز الفيلموغرافي الفلسطيني، في ثمانينيات القرن الماضي، تحوّلات بنيوية هائلة، وأضحى يمتلك خصوصيات فنيّة وجماليّة، تُؤهّله ليكون كونياً. الكونية هنا تبدأ من الداخل الفلسطيني، ومن تاريخه وذاكرته وجراحاته ومآزقه وأحلامه. فهذا الـ"كُلّ" جعل السينما الفلسطينية تغدو عالمية. "أليست العالمية تبدأ من قريتي"، كما قال الكاتب الكولومبي غبريال غارسيا ماركيز؟ لكنْ، لهذه الكونية ما يُؤسِّس شرعيتها، فنيّاً وجمالياً وسياسياً وفكرياً. فالمخرج الفلسطيني استطاع أنْ يُبدع صورة سينمائية فلسطينية محضة، تخضع في شروطها ومواضيعها لسياقٍ مباشرٍ، يرتبط بالثورة والمقاومة والنضال ضد الاحتلال الصهيوني.

 

 

منذ تأسيس أوّل قسم للتصوير، في إطار "وحدة أفلام فلسطين"، لم يتراجع المخرج الفلسطيني، قديماً وحديثاً، عن جعل الصورة أداة بصريّة، تُدين الحاضر الاستعماري، وتُفكّك جرائمه، وتُعرّي أعطابه ومزالقه في الجغرافية والتاريخ الفلسطينيين. هذا الأمر، بقدر ما كان أسلوباً سياسياً بامتياز، أتاح إمكانية أنْ يغدو النقد المشروع من أهم الخصائص الجماليّة، التي تُميّز الفيلم الفلسطيني في الفيلموغرافيا العربيّة، وتجعله مُتفرّداً، فنيّاً وجمالياً، في مهرجانات عالمية عدّة.

الصورة فلسطينيّة، والذاكرة مُضمّخة بالجرح، والجسد مثقل بالأحلام وخيباتها إزاء آخَر مُغتصب. لكنّ السينما تتعامل مع هذا كلّه بوعي، وتحاول مراراً تخييل هذا الجرح الغائر في الجسد الفلسطيني، وتحويله إلى صُور وحكايات، يظلّ الواقع العينيّ موطنها الأساس.

أسماء سينمائية فلسطينيّة عدّة أنتجت متوناً فنيّة أكثر تركيباً، تتجاوز سمات الارتباك، التي ربما تظهر عليها من الخارج. هذا عاملٌ مهمّ في وجود فلسطين في مهرجانات عالمية، خاصّة مع أفلامٍ ذات إنتاج أجنبي (شيرين دعيبس وآن ـ ماري جاسر ونجوى نجّار). هذه الأفلام تفرض نفسها، ليس لامتلاكها دعماً أجنبياً، بل بحكم عملية التجريب الجماليّ، التي تنطبع بها الصورة، فكراً واشتغالاً. الرغبة في تملّك التاريخ الفلسطينيّ بصرياً، وإقامة نوع من التماهي بين ذاكرة المكان وأجساد الناس، تجعل أفلام الألفية الجديدة مغايرة، لأنّها غير معنيّة بالتسجيل المطابق للواقع، بل باقتناص حكايات واقعية، وموضعتها في صورة فنيّة أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. هذه المُطابقة البصريّة الوهمية، المُسجّلة في أفلام نجّار وجاسر ومي المصري وإيليا سليمان وجمانة منّاع، تبقى أهم نموذج بصريّ، تتفرّع منه المؤثّرات والموسيقى واللعب بالفضاء والصمت والظلال والألوان الطبيعية، ما يعني أنّ الاحتفاء بفلسطين أضحى وجودياً، وبمفهومٍ مطلق، يتبرّم من أنْ يُسمّي نفسه "سينما الثورة" أو "سينما القضية"، مع أنّ الأمر يبقى كذلك في تاريخ السينما الفلسطينيّة.

هذا التحوّل، الذي طاول السينما، كشف سريعاً عن كونه بنيويّاً، ولا يرتبط بالسينما فقط، بل يكتسح كلّ أشكال العملية الثقافية بمفهومها المُركّب، من شعر وقصّة ورواية ومسرح، أمام صورة مرحلة تُودّع مختلف الأشكال النضالية، وطرق الفهم والتعبير والعمل، وتدخل بشكل مهووس في اهتمام الفرد بذاته ومآزقه، ما سيفتح المجال الواسع لأفلام الألفية الجديدة في البروز والتبلوّر وفق آراء ورؤى وأمزجة وأساليب وتقنيات، لا يُمكن فصلها فكرياً عن مفهوم التجريب السينمائي، الذي بدأ يلوح في الأفق السينمائي العربي، منذ أوائل الثمانينيات الماضية.

المساهمون