إيليا سليمان (1/ 2): أن نصنع الصورة لغرض جمالي

إيليا سليمان (1/ 2): أن نصنع الصورة بأي ثمن لغرض جمالي صرف

06 يناير 2020
إيليا سليمان: "أتبع الحدس الخاص بي" (إيمون مكورماك/Getty)
+ الخط -

كان التّأهّب في أقصى درجاته قبل عرض "إن شئتَ كما في السماء" (2019)، للفلسطيني إيليا سليمان، في برنامج "العروض الخاصة"، في الدورة الـ18 (29 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش". فالفيلم يجرّ وراءه، منذ عرضه في المسابقة الرسمية للدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي (نال تنويهاً خاصاً من لجنة التحكيم، وجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد")، عطر تفرّدٍ مطلق، وإشادة نقدية كبيرة، جعلته من أهمّ أفلام عام 2019. الترقّب نابع أيضاً من أن مخرجه اختفى عن السينما عقداً كاملاً.

صعد إيليا سليمان على خشبة المسرح، في "قاعة الوزراء" في قصر المؤتمرات، وقدّم فيلمه كعادته بمُزاحٍ، قائلا إنّه أطرف أفلامه. "إنْ شئتَ كما في السماء" هو أيضاً أقلّ أفلام سليمان اعتماداً على الحبكة بمعناها الكلاسيكي، حيث تتوالى مجموعة "تابلوهات" من حياة المخرج في 3 فضاءات، فلسطين وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، تنطلق بمشهد القسّ الذي يكسر الباب الخلفي للكنيسة، كأنّ هناك من يضع منذ البداية رجلاً في جمالية اقتحام الفضاءات، والإتيان بالأشياء من نوافذها الخلفية.

تتوالى الوضعيات المفارقة بين الحميمية (المخرج في صراع مع عصفور لا ينفكّ يزعج تركيزه على الكتابة) والاستعراضية (مشهد الدبابات التي تجول وسط باريس، وإحالته على "فلسطنة" العالم التي يتبنّاها المخرج في بعض الحوارات)، وتتناوب فيها السخرية اللاذعة، والحزن الميلانكولي، والشّجن الذي يعصر القلوب (مشهد فتاة  فلسطينية معصوبة العينين يخطفها جنديان إسرائيليان لا يكفّان عن تبادل نظّارتيهما الشّمسيتين، والمرأة البدوية التي تتنقّل لاهثة بين أشجار الزيتون، ولا تضع ما تحمله إلاّ لتحمل آخر، وكيف تحلو لنا رؤية "سيزيف" أنثوياً فيها، يدلّ بمنتهى الشعرية على مأزق القضية الفلسطينية).

القسم المصوّر في أميركا هو، من دون شكّ، أكثر أقسام الفيلم روعةً في مَشَاهده كلّها، خصوصاً لقطة سيارة الأجرة، ومشهدا المؤتمر العربي المساند للقضية الفلسطينية وملاحقة الفتاة ـ الملاك. ولو كان القسمان الآخران يحلّقان في الأعالي نفسها، لكان الفيلم "تحفة مطلقة". لكن هذا لا يمنع من أنّه فيلم كبير وأعجوبة حقيقية، ينبغي عدم تفويتها (يعرض حالياً في قاعات مغربية مختلفة)، فتُتَابع ببسمة تملأ الوجوه، ويخرج المُشاهد منها بقلب مبتهج يمتلئ أملاً ورجاء في عالم أفضل.

في هذه المناسبة، التقت "العربي الجديد" إيليا سليمان في حوار صريح وحافل بتفاصيل وطرافة، كفيلمه تماماً.


تحرص على خلق حسّ فكاهة مميّز في أفلامك كلّها. هل تعتقد أنّ الفكاهة تساعد أكثر على التقاط عبثية العالم الذي نعيش فيه اليوم؟
في الحقيقة، أنا لا أضع استراتيجية لاستخدام الفكاهة. إنها إمّا أنْ تكون، أو لا تكون. جزءٌ من شخصيّتي أنْ أراقب اللحظات الهامشية في الحياة اليومية، التي تحتوي، ربما، على بعض مكوّنات الفكاهة أو الأطروفة أو الهزل. لذلك، فإنّ ما شاهدته في الفيلم هو مجرّد ملاحظاتي للأشياء، وما أختاره من الحياة اليومية، ولا نيّة (كامنة في) ما وراءه بالضرورة.

لا أعلم ما إذا كان يحتوي على أكثر من ذلك، أم على أقلّ. لكن، يمكنني إخبارك أنّ إحداث شرخٍ في الزمن الذي تكسبه من جملة فارقة، فكاهة أو أطروفة، يعطي شمقاً ونشوةً ولحظة تأمّل، فيتوقّف الزمن في هذه اللحظة عن الاشتغال بالطريقة التي نعرفها، ونعيش في لحظة شعرية خالصة. هذا أمرٌ سياسي للغاية، لكنّي أؤكّد على أنّ هذا محض نتيجة فقط، ليس لأنّي أقوم بذلك لتعبئة الناس بهدف إحداث ثورة. أنا لا أحشد أحداً لفعل أيّ شيء.

أعتقد أنّ أعظم دواعي سروري هو تأليف لحظات من المتعة. أعظم سروري هو عندما يعيش المُشاهد هذه المتعة. بالنسبة إليّ، إنها متعة سياسية للغاية أيضاً. أعتقد أنّي أتوقّف عند هذا الحدّ عندما أخلق صورة. لا أريد تحليلها، ولا أبحث عن تشريحها. أعمل ضد نزعة التفسير، نوعاً ما. لذلك، عندما يسألني الناس بعد الفيلم: "هل شيء ما استعارة لكذا؟"، لا بدّ أنْ أنظر إلى هذا بصفتي متفرّجاً أنا نفسي، وأقول نعم أو لا، أو كناقد، وليس كصانع تلك الصورة. أعتقد أنّه عندما تقوم بتكوين صُوَر، وأقول هذا كثيراً للأجيال الشابة، عليك أنْ تصنع الصورة بأيّ ثمن للغرض الجمالي الصرف.

الآن، إذا كنتَ شخصاً مخلصاً، وإذا كنَت شخصاً سياسياً، وإذا كنتَ شخصاً يرغب في التغيير إلى الأفضل، فمن الطبيعي أنّ هذا كلّه سيجد بالضرورة طريقه إلى صُورك. لكنْ، إذا بدأتَ في التسطير على البُعد السياسي للصورة، فإنّ صُوَرك ستفشل. إذا بدأتَ تقول: "حسناً، هذه الصورة ستمثّل هذا أو ذاك"، ستفشل صُوَرك، وستخرج بفيلم شعارات. لذلك، تحتاج فقط إلى تخليص عقلك من كلّ ذهنية، وتتركه وراءك، وتربط نفسك مع العاطفة فقط، جوهر تكوين الصُوَر ومنتهاها.

قبل أعوام قليلة، أجرينا مقابلة هنا بمرّاكش، وتحدّثت معي عن مشاكل كنتَ تواجهها للحصول على تمويل الفيلم. كان مؤثّراً للغاية، بالنسبة إليّ، رؤية بعض تلك المشاكل مع المنتجين بشكل هزليّ في "إنْ شئتَ كما في السماء". متى قرّرت دمجها فيه؟
في الواقع، أنا لم أفعل. ما رأيتَه في الفيلم، عندما يتحدّث فانسان مارافال عن رؤيته للإنتاج، أو عندما يصنع غايل غارسيا موريل الشيء نفسه، لا يتعلّق هذا بالفيلم أبداً. واجهتُ مشاكل تمويل كثيرة، لأنّه ليس سهلاً إنتاج فيلم يتمّ تصويره في 3 دول مختلفة. إنّها توليفة معقّدة للغاية، أنْ تُكوّن 3 فرق تصوير مختلفة. ليس سهلاً القيام بذلك، وليس سهلاً أيضاً تمويل فيلم غير تجاري بالمعنى المتعارف عليه، أي من دون نجوم، وبسرد غير خطي، ومصنوع ممّا نسمّيه لوحات. لكنّي أعتقد أنّي اعتدتُ مواجهة هذا النوع من المشاكل، منذ الفيلم الأول، نظراً إلى طبيعة ما نسمّيه أفلاماً غير رخيصة الإنتاج، وغير مُكلِفة كثيراً أيضاً.

(*) ما يسمّيه الفرنسيون "أفلام الوسط".
بالضبط. تعود قصة فانسان إلى فيلمي الأول، وذلك النوع من الخطاب ما بعد الاستعماري أو العنصري، القائل بأنّ هذا غير فلسطيني أو غير فلسطيني بما فيه الكفاية. واجهتُ هذا في فرنسا منذ فيلمي الأول، خصوصاً مع منتجي الجناح اليساري حينها، الذين يكونون دائماً سبب المشاكل. يا للمفارقة (ضحك). هم يتعاملون مع القضايا بأبويّة، ويعتقدون أنّهم يعرفون أفضل من النّاس أنفسهم، وأنّهم يمثّلون العالم الثالث. كانوا يصدمون ويتجاهلونني ما إنْ يروا الفكاهة في طرحي، ويقولون: "كيف يُمكن أنْ يضحك الفلسطينيون وهم يواجهون الموقف الذي نعرفه؟". رُفِض مشروعي يساراً ويميناً، والرّد كان نفسه دائماً: "أنتَ فلسطيني مزيّف، لأنّك أتيتَ من أميركا". كنتُ أعيش في نيويورك حينها. هؤلاء يحبّون أن يكونوا فرسان قضايا العالم.

أو أنْ يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.
نعم، تماماً. إنّهم منافقون للغاية، لأنّهم يحملون أميركا في قلوبهم وينتقدونها علناً.

وكيف تمكّنت من الحصول على تمويلٍ للفيلم؟
أنتجتُ الفيلم بنفسي. أنا من ذهب إلى مسؤولي التلفزيون، وأنا الذي قابلت المموّلين. ما من أحد أراد إنتاجه. لكن، بعد ذلك، بالنسبة إلى الأفلام الأخرى، كـ"يد إلهية"، كان لديّ منتجٌ رائعٌ هو أمبير بالزان، الذي توفّي عام 2005. لهذا السبب أهديتُ الفيلم إليه. كان رائعاً للغاية. أعتقد أنّه كان أروع منتج حينها. كان لديه حقاً شغف العالم. لكن، منذ ذلك الحين، حتّى في هذا الفيلم، أصبحتُ منتجاً مشاركاً. هناك أسباب عديدة وراء هذا الأمر، أهمّها الاستحواذ على شيء من القوّة يعطيك أساساً الحقّ في عمل الفيلم الذي تريده. لم يكن لديّ الإحساس نفسه عند إنجازي "الزمن المتبقّي". كلفته باهظة، وكانت تحفّ به ضغوط كثيرة.

جيّدٌ أنْ تتحدث عن "الزمن المتبقّي"، ذي العنوان المحيّر، فهذا يسمح لي بطرح سؤال عن العنوان العربي لـ"إنْ شئتَ كما في السماء". لماذا هذا العنوان، وليس "لا بدّ أنّها الجنّة"، الأقرب إلى العنوان الدولي؟
لم أرد استخدام كلمة "جنّة"، لحضورها في أفلامٍ كثيرة.

حسناً، دعنا نقل "لا بدّ أنّها السماء"، كما يقول أحدهم "لابدّ أنّي أحلم".
لا تحاول تفسير العنوان العربي (ضحك)، لأنّي لم أشأ عنواناً عربياً أصلاً. "إنْ شئتَ كما في السماء" مجرّد تعبير عن العنوان الأصلي، لأنّ "لا بدّ أنها الجنّة" مكررٌ للغاية. شاهدتُ أفلاماً كثيرة ترد في عناوينها كلمة "الجنّة". إلى ذلك، فإنّ الجنّة في فيلمي ليست بمعنى الفردوس، بل أقرب إلى مفهوم "السماوات".

ونحن نرى السماء أحياناً كثيرة في الفيلم.
نعم. لا يتعلّق الأمر أبداً بترجمة حرفية. على أيّ حال، فإنّ السبب الوحيد وراء وضع عنوان باللغة العربية، في الواقع، هو أن بعض الـ"كتالوغات" رغب في ذلك. واضحٌ أن العنوان الأصلي غير قابل للترجمة: It Must Be Heaven. طبعاً، هناك دول لديها خيار تغيير العنوان عند توزيع الفيلم فيها، لكن لم يكن لدي عنوان بالعربية أضعه على شكل عنوانٍ فرعيّ.

لماذا مهمّ لك أن تكون ممثّلاً في فيلمك؟
حتّى أتقاضى الأجر مرّتين (ضحك). في الحقيقة، هذه طريقة أرى بها الأشياء في معظم أفلامي حتى الآن. لا أعرف بخصوص المستقبل. الفيلم مستوحى من لحظات عشتها حقاً، ومشحوذٌ ومدفوعٌ بها. لذلك هو تجربة عيش. طبيعي تماماً أنْ أصبح جزءاً منه. إذا لاحظتَ، ففي أفلامي كلّها أؤدّي دور صانع أفلام أيضاً. من هو هذا الرجل؟ هذا أنا.

لذلك، طبيعي أنْ أؤدّي دوره بنفسي. أعتقد أنه يجب اختبار الأشياء دائماً انطلاقاً من مكوّن الصدق، وينبغي أن تشعر تماماً بمدى حقيقية الأشياء التي تقوم بها. أعتقد أنّ هذا ما أشعر به، وهو ليس الحدس الناجح بالضرورة. أنتَ لا تضع استراتيجية، ولا تتّخذ قراراً. أنت تقول: "سأتبع الحدس الخاص بي، وما يخبرني به الفيلم"، أكثر بكثير من أنْ تقول: "حسناً، سأفعل هذا أو ذاك". هذا بالتأكيد أهمّ شعار يعبّر عن أفلامي، وعن كلّ ما تراه فيها. بخلاف ذلك، لا أقوم أبداً بتكوين صورة، لاعتقادي أنّها ستقول شيئاً ما. لا. أنا أفعل ما أقوم به، وبعد ذلك أتمكّن من أخذ مسافة عندما أشاهد الفيلم مع الناس، وأرى ما قمتُ به. عندها فقط أكون قادراً على التحدّث عنه.

أثناء المقابلات التي أجريتُها مباشرة بعد انتهائي من الفيلم، شعرتُ بشيء من الارتباك، لأنّي انتهيت للتوّ من الاشتغال عليه. كنتُ محتاجاً إلى وقتٍ قليل، وإلى مسافة لرؤية الفيلم كناقد أو كمُشاهد. أعرفُ الآن ما قمتُ به بشكل أفضل ممّا كنت أعرفه عند انتهائي منه. شاهدته مرات عديدة، والآن أرى بوضوح أكبر الاتجاه الذي كنتُ أذهب إليه. أعتقد أنّ الأمر أكثر إثارة للاهتمام بالنسبة إليّ حين أقوم به بهذه الطريقة. أريد التماهي دائماً مع المشاهد. لذلك، عندما أقوم بتكوين الصُوَر، أحاول النظر إلى الأشياء أيضا من جانب المُشاهد، بمحاولتي التأمّل بعمق بطريقة أو بأخرى، حتى أقتنع بأنّي لست وحيداً في كلّ ما أقوله أو أفعله أو أؤلّفه.

لاحظتُ أنّ القسم الفرنسي من الفيلم مُشمس، والقسم الأميركي ليلي. أمّا القسم الفلسطيني، فيجري في منزلة بينهما، أو ما يطلق عليه الساعة السحرية، أي في وقت الفجر أو عند الغروب. هذا يقول أشياء مهمة عن الشرط الفلسطيني في نظري.
أنتَ تُحلّل أكثر من اللازم (ضحك).

دعني أكمل السؤال وسترى.
حسناً.

هذا يقول إن هناك في الشرط الفلسطيني شيئاً ما لا يتوقّف عن الولادة (مثل الشمس البازغة)، وفي الوقت نفسه، هناك شيء يعيش في احتضار مستمر (على غرار الشمس الآفلة).
لا، ليس صحيحاً أبداً ما قلتَه، لكنه جميل جداً. سأحتفظ به في جانب من رأسي، وأخرجه في الحوارات المقبلة كأنّي أنا صاحبه (ضحك).

المساهمون