"الفتاة الهادئة": أداء باهر يطرح أسئلةً إنسانية

"الفتاة الهادئة": أداء باهر يطرح أسئلةً إنسانية

28 سبتمبر 2022
كايت (كاثرين كلينش) في "الفتاة الهادئة": البحث عن أمان معطّل (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

تمكّن المخرج الأيرلندي كولم بِرايْد (1981) من خلق أبعادٍ جمالية عدّة، في جديده "الفتاة الهادئة" (2022)، انطلاقاً من مُعالجة ذكية لقصّة بسيطة، لا تحتوي على تفاصيل وتهويمات كثيرة، مُتبعاً بذلك الإحاطة الشاملة بالشخصية، والتركيز على المُعطى النفسي الناشئ من المعاملة والسلوك البشريين.

في "الفتاة الهادئة" ـ المُشارك في برنامج "جيل"، في الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، والحاصل على "تنويه خاص" ـ ركّز بِرايْد على العلل التي تُنتجها الأسر والبيئة والمحيط على الأطفال، بوعي أو بشكل غير متعمّد. لكنّ النتائج تكون كارثية غالباً، تجرح البراءة، وتعصف بمستقبل الأطفال، بسبب تلك الاضطرابات النفسية، في مراحلهم العمرية المختلفة. بِرايْد لم يشتّت نفسه، بإغراق فيلمه في معطيات غير ضرورية، بل اختار مرحلة عمرية معيّنة للطفلة كايت (كاثرين كلينش)، التي تبلغ 9 أعوام، مُحلّلاً عللها النفسية وسلوكياتها، بدءاً من محيطها القريب، كأسرتها المهمِلة، مع أب (مايكل باتريك) مُقامر، لا يهتمّ كثيراً بأسرته وأطفاله الخمسة، وأمّ حامل (كيت نِكْ تشونُوْناي)، لم تجد وقتاً كافياً لرعاية الأطفال الصغار، بالإضافة إلى مشاكل الحياة والفقر والمتطلّبات الأخرى.

هذا سبَّب عسر قراءة لدى كايت في المدرسة، إلى هدوئها وقلّة كلامها وتعاطيها مع محيطها. أكثر من ذلك، تبلّل فراشها، ولا تتعاطى مع ما/من حولها، كما يفعل كلّ من في سنّها. معطيات جعلت الأطفال الآخرين في المدرسة يتنمّرون عليها، ما فاقم من حالتها النفسية. لكنّ حياتها ستتغيّر كلّياً في العطلة الصيفية، بعد إرسال قريبتها رسالة إلى أمها، تدعو فيها كايت إلى تمضية العطلة عندها، فاستحسن الأب الدعوة، لأنّه اعتبر أنّ كمية من الطعام ستتوفّر للأسرة. لذا، رافقها إلى حيث أقاربها، ثم عاد إلى منزله.

وجدت كايت نفسها في أسرة جديدة، في مزرعة أخرى منعزلة. لا أطفال تلعب معهم، ولا فضاءات تُسلّيها. فقط مزارع ممتدّة، وحظائر أبقار، وزوجان في منتصف العمر. بعد وقت قصير، اكتشفت قريبتها أيبْلِن سينْسِلاك (كاري كراوْلي)، وزوجها شون (أندرو بِنِتْ)، سلوكها غير السوي، الذي يعود أساساً إلى إهمال أسرتها لها، وعدم الاهتمام الكافي الذي يليق بسنّها. ورغم أنّها تُبلّل سريرها، لم تُعنّفها أيبْلِن أو تجرحها، بل وجّهت لها ملاحظات بسيطة. تعاملت مع الأمر باحتراف، بمعاينتها المشكلة التي أدّت إلى هذا الوضع، واهتمّت بها، وعلّمتها مهارات كثيرة، وأشركتها في أعمال المنزل، ومشّطت شعرها، وحنت عليها. أمّا شون، فكان يأخذها معه إلى المزرعة، ويُعاملها كأنّها ابنته. مع مرور الوقت، تغيّرت كايت كلّياً. ثم حان موعد عودتها إلى أسرتها. هنا، تحوّل الأمر إلى مأساة عاطفية حقيقية.

سرد جزء من القصة مهمّ لفهم أبعاد الفيلم وخلفيّاته النفسية، لاعتماده أساساً على صُوَر سلوكية تُحدثها الأسر، وتُسبِّب بها مآسي لا تنتهي لأطفالها. أشار كولم بِرايْد ـ كاتب السيناريو أيضاً، بالاستناد إلى رواية "فوستر" للكاتبة الأيرلندية كلير كيغان (1968) ـ إلى هذه النقطة لتفاديها، خاصة مسألة قلّة الاهتمام، التي تولّد شعور القهر والتهميش والمآسي لدى شريحة واسعة من الأطفال. كايت أفضل دليل على ذلك، إذْ وجدت في الأسرة الجديدة كلّ الرعاية اللازمة، فتغيّرت حياتها، واختفت كلّ أمراضها، وأصبحت مختلفة. وعند عودتها إلى أسرتها، لم تستطع مفارقة أيبْلِن وشون، فركضت إليهما سريعاً، محاولة اللحاق بسيارتهما عند مدخل منزل أهلها، فاحتضنها شون بقوة، وبكت أيبْلِن وحيدة في السيارة.

 

 

إنّها نهاية مفتوحة لـ"الفتاة الهادئة"، في خطوة ذكية لبِرايْد، الذي أتاح للمُشاهد التأويل، دافعاً إياه إلى طرح الأسئلة، والتنبؤ بمصير كايت: هل عادت معهما، أم بقيت مع أسرتها؟ لماذا لحق بها والدها البيولوجي، الذي لا يهمّه شيء، ولا يتعامل مع أطفاله كأيّ أب؟ معطيات ساهمت في رسم الصورة العامة لفيلمٍ، قدّم درساً بليغاً بخصوص ما يُمكن أنْ يفعله إهمال طفل في أسرته. هذه نقطة لا ينتبه إلى خطورتها آباء كثيرون.

نقل "الفتاة الهادئة" جرعة مرتفعة من الأحاسيس الحزينة، المحيطة بحياة كايت، وفي الوقت نفسه، سرد عبرها أوجاع العائلة الجديدة، التي فَقَدت ابنها في بئر الماء. هذا يُفسّر عاطفة الأمومة والأبوة التي أحاطاها بها. حتى أنْ أيبْلِن تعجّبت من الأسرة التي تترك ابنها عند غرباء، لكنّ ذلك أعاد إليها البريق المختفي للطفولة، وأشعرها بالوهج المنطفئ للحياة في أسرتها البيولوجية.

نسج كولم بِرايْد سيناريو قوياً ومحبوكاً، ومن دون ثغرات، وأثار تعاطفاً كبيراً، بعد محاصرته المُشاهِد بأسئلة إنسانية، يجب فهم أبعادها كي لا تحصل المعطيات السلبية التي ملأت حياة كايت بالحزن. وقدّم وصفة سحرية تحيي القلوب، وتفهم المتطلبات البسيطة للطفل، وهذه أشياء غير مرتبطة بالمال، بل بالاهتمام وعدم الإهمال.

ظاهرياً، تحديد الزمن في الفيلم غير مُهمّ، إذْ يُمكن لهذه القصة أنْ تحدث في أي مكان وزمان، بالقوّة نفسها. لكنّ بِرايْد حددّها في بداية ثمانينيات القرن الـ20، عبر برامج تلفزيونية وإذاعية مُوظّفة فيه، أو التواصل عبر الرسائل البريدية. خياراته ناتجةٌ من احتمالات عدّة، منها المحافظة على روح الرواية لكسب جمهورها، ولطرح سؤال خارج السياق الفيلمي: كيف سيكون وضع كايت ومثيلاتها حالياً، إيجاباً أو سلباً. ما يحدث في المجتمع نتيجة حتمية لما يُمكن أنْ تتلقّاه كايت وأشباهها في أسرهم وبيئاتهم. كما أحسن في اختيار فصل الصيف، خاصة أنّه مرتبط في سردية المَشاهد بالعطلة والمغامرة والاكتشاف، وهذا تصرّف ذكي للوصول إلى زاوية الطفولة لدى كلّ فرد. معطيات تدل على أنْ بِرايْد فهم جيداً قصّة فيلمه، وأجرى حولها أبحاثاً عدّة، معرفياً وعلمياً وعاطفياً وجمالياً.

مناظر "الفتاة الهادئة" مُكمّلة لنفسيات شخصياته، بما تعكسها من طرق تصطفّ إلى جوانبها أشجار عالية ومتداخلة، وحقول خضراء، وسكون فضاءات داخلية في البيت والمزرعة. مشاهد ساعدت كثيراً في فهم أبعاد كايت وشخصيتها، والتشابك معها. أعطى التمثيل الجيّد قوّة دفع، خاصة مع الممثلة كاري كراوْلي (أيبْلِن سينْسِلاك)، التي عكست شعور الأمومة والفَقَد والتفهّم عبر عينيها اللتين تشعّان حزناً وحبّاً، ومشاعر لَمّ الشمل والفراق. فهي تعرف جيّداً كيف تتواصل مع المشاهد بصمت، وتوصل إليه العاطفة التي تعكسها الأحداث بحِرَفيّة. هذا ما قامت به الطفلة كاثرين كلينش، التي فهمت شخصيتها وعجنتها بطريقة جيدة، لتخرج منها فتاة خائفة ومضطربة وغامضة.

هذا نفسه حَدَث مع الممثلين الآخرين، الذين فهموا جيّداً أدوارهم، وتفاعلوا مع كلّ تفصيل فيها. هذا التكامل بين الشخصيات أوجد قصّة قوية ومؤثّرة.

المساهمون