مشروع ليلى والفيصلي ونابلس... مرحباً بالدماء وحقن الدماء

مشروع ليلى والفيصلي ونابلس... مرحباً بالدماء وحقن الدماء

03 اغسطس 2019
محاكمات ميدانية والدولة ضيف شرف (العربي الجديد)
+ الخط -
ثلاثة أحداث وقعت هذا الأسبوع في ثلاث مناطق، كان يمكن القول اختصاراً إنها وقعت في بلاد الشام. بيد أن هذه الجغرافيا الشامية يمكن العثور عليها فقط في كتب التراث، يوم كانت فلسطين في المعاجم "كورة في الشام" ولبنان "جبلاً"، والأردن "نهراً وكورة".

في هذا الأسبوع تصالح نادي الفيصلي الأردني مع ممثل كوميدي اسمه عماد فراجين. وكان الصلح عشائرياً وازناً، قدم فيه الممثل اعتذاراً عن حلقة كوميدية العام الماضي، استاء منها النادي، ولم يكن من حل سوى مثول الشاب الكوميدي، ومن ثم مسامحته وهو في مضارب النادي، إكراماً لشيوخ العشائر والوجهاء، الذين لا يردّون خائبين، وهم يطلبون العفو من كرام يعفون عند المقدرة.

وفي لبنان استطاع حرّاس المسيحية منع فرقة "مشروع ليلى"، من إقامة حفلها في مهرجان بيبلوس بمدينة جبيل، "حقناً لإراقة الدماء"، بعد انفلات التهديدات من كل حدب وصوب مسيحي، بقلب المهرجان رأساً على عقب، إذا ما صعدت الفرقة على المسرح، الفرقة المتهمة بالتجديف والسخرية من الكنيسة.

وفي فلسطين التي كانت مفتاح الشام إلى مصر، وأصبحت بجهود صهيونية وعربية شقيقة ضفة غربية وغزة و48، تنادت أصوات بالشتم والتحقير للكاتب عارف حجاوي، بسبب مقالة وصف فيها المرأة النابلسية بأنها "قويّة"، ورجلها "وديع"، وأن لقب "جبل النار" الذي أسبغ على المدينة لا يوافقها، في الحقيقة.

في الحالات الثلاث، لا يوجد سوى خيط واحد ينتظمها، ألا وهو تهتك صورة الدولة، وفقر في ثقافة القانون، ودائماً يتهتك كل شيء ويفقر مع لازمة الاحترام للدولة والقانون.

أضيف فلسطين إلى الدول، لأنها وهي تحت سلطة مهيضة الجناح أمام المحتل، لديها ما لدى الآخرين من محاكم، تفصل في النزاعات المحلية.

عماد فراجين ممثل كوميدي فلسطيني كثير الظهور، ولديه موهبة مستهلكة في الصالح والطالح، بسبب كثرة الطلب عليه، وجاهزيته الدائمة، حتى إنه من قلة النصوص الكوميدية، يلجأ إلى النكات المتداولة في مواقع التواصل ويترجمها تمثيلاً، بما يفقر النكتة من طراز "مرة واحد.."، وهذا منوال العديدين في برامج التلفزة وقنوات يوتيوب، مثل ممثل شاب أردني يدعى يزن نوباني، وهما وغيرهما، يشيران إلى مواهب دائماً يساء تدبيرها.

لأخينا فراجين حلقة لعب فيها دور معلق رياضي خفيف العقل، يقول إن لاعبي الفيصلي في الشوط الأول كانوا "حفرتليّة"، وهي مفردة غير فاحشة، وفي سياق تمثيلي متخيل يعرض محللاً رياضياً أقرب إلى البلاهة، وتنتهي الوصلة بعلقة، وطرد من الاستوديو تلاحقه الشتائم بأنه محلل بول، لا رياضي.

وفي الأعمال الفنية التمثيلية الأردنية تاريخياً، يجب الابتعاد عن وضع المناطق، ومن ثم سكانها وألقاب العائلات ضمن أي سياق سينمائي أو تلفزيوني يثير النعرات. أي حرامي في مسلسل يكون معلقاً في الفراغ، لا تجوز نسبته إلى منطقة أو عائلة.

نتذكر في مطلع التسعينيات ما قاله رئيس المركز الثقافي الملكي إياد قطّان في أمسية في غاليري الفينيق، عن منع مسلسل، لماذا؟ لأن الشخصية الشريرة فيها تحمل اسم "هاشم".

يمكن لأي قارئ استعراض عشرات الأمثلة العربية، مثل قطع عبارة "أنا بخاف من الكلب يطلعلي أسد" من مسرحية "شاهد ماشافش حاجة" لدى عرضها في التلفزيون السوري، أو استبدال اسم الأسد بالسبع في دبلجات الرسوم المتحركة.

ما بين حساسيات العرف، ومحاذير السلطة السياسية تضيق مساحة التعبير، ونكون أمام نوع من الفكاهة، بمجرد سؤال أي شخص في بلد عربي عما ينبغي عليك مراعاته، وقلة الانتباه أو المصادفات أو روح المغامرة التي قد تزعجك أو تضيّق عليك، أو قد تذهب بك في رحلة ما وراء الشمس، وهناك يمكنك أن تسلي وحدتك، وتغني "العطارد بيتكلم عربي".

في هذا المناخ وجد فراجين، الكوميديان الفلسطيني المقيم في الأردن نفسه بعد حلقة بثت في 2018، أمام ناد أعلن عزمه مقاضاته.

ما نتيجة ذلك؟ لا أخبار عن حكم قضائي. ما حيثيات المحاكمة؟ كيف درس القاضي القضية وبماذا حكم في نص كوميدي؟ هل فرضت عليه عقوبة بعد إدانته بالازدراء؟ هل أدين؟ وبماذا رد محامي الدفاع؟

كل هذا تغميس خارج الصحن. النادي غضب غضبة مضرية، نيابة عن رمزية الأردن التي عرّض بها ممثل فلسطيني، وهو ضيف كان عليه أن يكون كما يريد المثل "يا غريب خلّيك أديب".

لكنه ليس غريباً، فما غريب إلا الشيطان. وهذا ما أكده رئيس النادي الذي قال في المصالحة الكبرى، إن الحال الأردنية والفلسطينية واحدة.

طيب، لو كان الممثل أردنياً، فما المناطق المكتوب عليها "ممنوع الاقتراب والتصوير"؟ وما حدود الكوميديا؟ بل ما حدود التهكم؟ وما دخل جهة أو فئة حتى يكون لها تقاليد منافسة لتقاليد الدولة؟

في دول ما بعد الاستعمار، ودول الشام سايكس بيكو، تنشأ حساسيات الطائفة، والعشيرة، والجهة، والعرق، بمخالب احتياطية، ترى، وترى الدولة معها أنها محل احترام. وتتبادل جميعها عبارة "الدولة فوق الجميع"، والحقيقة أن الدولة، فشلت بجدارة في فرض نفسها، كياناً لا يمسّ، ولا يشك في هيبتها ومراجعها الدستورية والقانونية.

وحين يفتح مزاد العنصرية الوطنية، والطائفية، والجهوية، تبقى الدولة على شعارها، ولكنها مثل السوائل تأخذ شكل الإناء الذي توضع فيه.

إلى لبنان إذاً، فهؤلاء الغاضبون ليسوا لبنانيين، بل كانوا قبالة فرقة غنائية، مسيحيين يكيفون لبنان، لا بوصفه حالة سائلة هذه المرة، بل معجوناً ومخبوزاً على سمع الدولة وبصرها. هذا الانفصال المتفق عليه، وإلا فلماذا شكل هذا البلد الصغير مهوى أفئدة العرب الهاربين من بلاد تحكمها دولة العوار.

إنها الفوضى التي تشبه الحرية، مع الفارق القانوني بين حرية في فرنسا، محكومة بالقانون، وفوضى موزونة بثمانية عشر ميزاناً طائفياً.

لا توجد دولة تحسم أولى بديهيات الاستقلال. يمكنك أن ترفع علم فرنسا وهذا حقك الأمومي بالرضاعة أو علم الطائفة، أو علم لبنان في المناسبات الرسمية، أو الأعلام الثلاثة معاً. التنوع كله هناك، والفوضى التي تشبه الحرية، ولا توجد دولة فوق الجميع.

لم تعد بيروت غرام الرومانسيين والثوريين والمثقفين والحشاشين، وأجهزة المخابرات من كل بلاد الأرض. كان ذلك عهداً مضى. وما تقوله الآن أزمة النفايات المسكينة التي لا تعرف مستقراً، أبلغ مما يقوله أي محلل استراتيجي.

كان الأمر محتاجاً لفتوى من أحد حراس الكنيسة حتى ينفلت عقال الناس. الكل يهدد بالدم، ويشتم أي متعاطف مع الفرقة. إذا كان مسيحياً فهو علماني أو شيوعي، أو ملحد، أو له حسابات مسيحية أخرى، وإذا كان مسلماً، يواجه بالقول: دعنا وشأننا. لو كان الإسلام مستهدفاً لرأينا الدم للركب.

بحسب القانون الذي تلاه جوزيف أبو فاضل الكاتب والمحلل السياسي والمحامي.. إلخ فإن الازدراء ممنوع، ومن عنده فإن من يهين "العدرا" (العذراء) لن يحترمه.

على القانون أن يحكم. أي قانون؟ الحفل ألغي حقناً للدماء، ليس لأن "مشروع ليلى" لم تحترم القانون. هل الدولة اللبنانية هي التي حقنت الدماء، أم أن سكاكين المليشيات الطويلة، لمعت وحكمت في حدود حارتها، التي بحسب نزيل المصحة العقلية في مسرحية "فيلم أميركي طويل" الرائع جوزيف صقر "حارة بيسكّرها ولد"؟

كان الولد من زعران (أو ضحايا) الحرب الأهلية، لكنه اليوم أقل جدارة.

 في مصنع الرداءة، يعلو صوت ممثلة من طراز ما بعد الكومبارس اسمها سها قيقانو، يصعب أن يتعرف إليها أحد خارج حدود شقتها، لكنها بالتغريد وبالتغريد العصابي، تحجز مقعداً لها، وتنادي بعلو الصوت "الشيطان سيسيطر إذا لم يتم الدعس بقوة".

وبعد انتصار السكاكين المقدسة على مجرد حفلة، احتفلت قيقانو بدعس الشيطان، ودعت إلى الذهاب نحو شياطين آخرين في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، مقترحة "أفران هتلر" حلاً نهائياً لهم.

واقعة فلسطين كواقعة الأردن، يسهل إيجاد وسطاء من "وجوه الخير" يرأبون الصدع، ويلعنون الشيطان الذي يحرص الجميع على بقائه عند أطراف المضارب، ليحملوه دائماً سوء الفهم المزمن.

فهذا هو الكاتب والإعلامي عارف حجاوي يكتب عن مدينة نابلس وناسها نصاً، يقترح الشاعر الراحل خيري منصور تسميته بـ"الهجاء الحميم"، تجاه مدن نحبها ونشتمها في آن واحد.

هو ليس نصّ كراهية، إنما مزيج من الانطباع الذاتي، والمكاشفة، والملاحظات، واللغة المتحررة من الاحتراس.

إضافة إلى حصيلته المعرفية التي استعمل بعضاً منها، باح الرجل بالفصحى عما يمكن قوله في جلسة أرجيلة. فنابلس "تبغض أهل الريف والمخيم. وهم يبادلونها صاعاً بصاع". وفي لهجتها ما "يوحي بالبلادة والبطء".

وعلى الأقل، مدينة "تبغض أهل الريف" لا يمكن أن تستغرب لدى أي قارئ عربي، بل يمكن أن أغامر وأقول في العالم.

وبعض من الغزوة النابلسية المضادة، ذكّرت الكاتب بأصله الفلاحي العائد لإحدى قرى نابلس، مع أنه أصيل المدينة ولادة، ونشأة، وأمه من عائلة طوقان النابلسية الشهيرة.

تنتمي نابلس إلى نوع من المدن المنطوية، وأشار الكاتب الفلسطيني المؤسس خليل السكاكيني إلى تقليديتها مقارنة بمدينة القدس.

ولو قيّض لي أن أكتب عن مدينة الخليل التي لا أعرفها، من سيرة الآباء والأجداد ومن انطباعاتي وقراءتي، فقد أتورط بما تورط فيه أخونا الحجاوي، أقله في بغضها أهل الريف، ومنها قريتي. إن المثل المدني "فلحوش (تحقير الفلاح) دين مالوش"، الذي لم نردده إلا على سبيل التفكّه، قد ينحدر إذ جد الجد إلى معيار يحدد وجودك وقدرك الذي عليك أن تعرفه.

الاستقواء على فرد، أو بضعة أفراد قليلي الحيلة، في فلسطين والأردن ولبنان يؤكد غريزة السلالة التي تنسج ثوبها من خيوط الوطن وتبيعه إليه. وما هي إلا تغريدة أو منشور على فيسبوك حتى يهدر دم أو سمعة فرد، مع الاحترام دائماً للدولة الكريمة.

لكن غريزة السلالة لا تكفي وحدها. هناك العقل الذي يدرك بوعي أن ما بعد الدم أو التلويح بالدم، مغانم تستفيد منها نخبة السلالة.

يدفع المغني الرئيسي في فرقة "مشروع ليلى" بالقول إن لديهم مجازاً يغنونه، وأزعم أن غالبية من رفعوا السكاكين على الفرقة لا يعرفون ما تعني كلمة "مجاز".

كما أن بعض من شتموا حجاوي، وقالوا إنه هو من يشرب مياه المجاري، لم يضعوا احتمال مجاري الينابيع والسيل التي تروي البساتين، مع مياه الأمطار.

ولئن جاء اقتراح خيري منصور "الهجاء الحميم" للحديث عن مدن يحبها الكتاب ويلعنونها، فإن الأمر لشيوعه في كل العالم لا تخلو منه نفس، سواء أكانت مثقفة أم خاماً.

"وداعاً يا دبلن. وداعاً يا حبيبتي القذرة" تجوز في لغة جيمس جويس تجاه مدينته، لكنها لا تجوز في لغة الهاشتاغيين.

بيد أنها تجوز، وتجوز. ولأي راصد أن يعثر منذ بدء التاريخ على آلاف الشواهد في التقليل من شأن مدن، وبلاد بأكملها، بل ولعنها.

الرحالة المقدسي، وحين كانت فلسطين والأردن كورتين في الشام لم يؤاخذ على القول، إن بلدة عمّان ذات فاكهة وعسل جيدين، وأهلها جهّال وأغلبهم شيعة، وإن في لغة رجال مصر ميوعة.

وربما لغياب مواقع التواصل الاجتماعي في القرن العاشر ميلادي، لم يصدر في حق المقدسي أي هاشتاغ، يعيره بأصله الفلسطيني، وبأنه حيوان من لقب بـ"الواوي"، ويمكن إضافة هاشتاغ شيعي يزهو بعمّان الشيعية، يقابله هاشتاغ سنّي يفيد بأننا خلصنا الجغرافيا من شروركم. كما سيبدو مناسباً في مصر لأسوأ طاقم مذيعين عرفتها المجرّة، بأن ينادوا نتنياهو للقصاص من شذاذ آفاق، لم يعرفوا الملوخية المفرومة إلا من مطبخنا. 

ولم يقع للمقدسي، ما وقع لعارضة الأزياء الأميركية بيلا حديد. لقد عيرتها هاشتاغات السعودية والإمارات بأصلها الفلسطيني، وبأنها باعت القضية وشرفها. لماذا؟ لأن المستورة نشرت صورة، وهي في المطار، فظهرت قدمها مصادفة مقابل أعلام البلدين، المطبوعة على الطائرات الرابضة في البعيد.

إن تصدي أجهزة دولتين نفطيتين لصورة شابّة، لا يصبّ في صالح أعلام وجدت أخيراً عارضة أزياء، كي تنتصر عليها، وتخفق في الأعالي مع الكواسر والفخار والسؤدد.

في الزمن القديم، كان معاوية بن أبي سفيان صبوراً تجاه حليم العرب الأحنف بن قيس. لاموه على صبره فقال: هذا الذي إذا غضب، غضب له مئة ألف، لا يدرون فيم غضب.

لا أحد يقدّر كم هي مرعبة عبارة معاوية، أكثر ممن يعيشون اللحظة العربية الراهنة في مضارب التواصل الاجتماعي.

دلالات

المساهمون