"الأب" للبلغاريين غروزيفا وفالتشانوف: كوميديا سوداء

"الأب" للبلغاريين غروزيفا وفالتشانوف: كوميديا سوداء

28 اغسطس 2019
"الأب" للبلغاريين غروزيفا وفالتشانوف: التباس العلاقات (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
تُعاني المجتمعات الغربية، الأوروبية خاصة، ارتفاعًا لافتًا للانتباه في نسبة المُسنّين مُقارنة بالشباب أو أصحاب الأعمار المتوسّطة. للأمر تبعات اقتصادية، وحتى سياسية، وبالتأكيد اجتماعية، خصوصًا عندما تكون العلاقات الأسرية مقطوعة، لسببٍ أو لآخر، أو تواجه مشاكل أو أزمات، أو عندما يكون الفرد وحيدًا، نظرًا إلى عدم وجود أسرة أو أقرباء. مع ذلك، لا يخلو الأمر من مشكلة كبرى تنجم عن وجود الأسرة أيضًا، عندما ترفض الأسرة رعاية المُسِنّ، ماديًا أو طبيًا أو معنويًا، وإنْ يكن المُسنّ أحد الوالدين. طبعًا، للعامل الاقتصادي وطبيعة التربية دورهما في هذا؛ لكن، هناك ما هو أبعد من ذلك أيضًا. 

هذا مُلاحَظ في "الأب"، للمخرجين البلغاريين كريستينا غروزيفا (1976) وبيتار فالتشانوف (1982)، الفائز بـ"الكرة البلورية (الجائزة الكبرى)"، وبجائزة مالية قدرها 25 ألف دولار أميركي، في الدورة 54 لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، المُقامة بين 28 يونيو/ حزيران و6 يوليو/ تموز 2019. فالفيلم يرتكز على العلاقة الفاترة بين أب وابنه، طارحًا عبرها مشاكل يعانيها الأبناء مع آبائهم، خاصة عندما يكون الأبناء بارّين وودودين، بينما الآباء عنيدين وطفوليين.

هذه المشكلة، المتعلّقة بالتعامل مع الآباء في شيخوختهم، ومحاولة التقرّب منهم أو احتوائهم، تواجه أبناء كثيرين، في مجتمعات وأوقاتٍ مختلفة. غالبًا ما تتباين ردود الفعل. لكن، بصرف النظر عن التباين هذا، فالأمر يمثّل مشكلة فعلية. فللأبناء حقّ العيش والاستقلال، ومواجهة صعوبات الحياة ومشاكلها. وفي الوقت نفسه، عدم التنصّل من المسؤولية. في المقابل، من حقّ الآباء على أبنائهم بعض العرفان وردّ الجميل، أو الاعتراف بهما على الأقلّ، وعليهم ـ في الآن نفسه ـ مراعاة ظروف الأبناء، وعدم الإثقال عليهم قدر المستطاع.

تتحوّل المشكلة إلى معضلة، عندما يكون أحد الأبوين من عيّنة فاسيل (إيفان سافوف): مُراهق عجوز متغطرس ومستبدّ ومتطلّب، تصعب السيطرة عليه، أو التنبؤ بتصرّفاته، رغم عدم اختلال عقله أو وهن جسده. ما بينه وبين ابنه بافل (إيفان بارنيف) ليس علاقة حبّ أو كره أو صداقة أو ندية أو مودة. علاقة تشعر معها أن الاثنين مُجبران عليها. لا يفصح أحدهما للآخر عن أي نوع من المشاعر. بافل يشعر بالتزام تجاه والده، نظرًا إلى طبيعة شخصيته. فبافل صبور وهادئ الطباع وواسع الصدر، بينما الأب نقيضه تمامًا. الأدهى أنّه، كما يبدو، يستغلّ طيبة بافل وصبره إلى أقصى مدى. ربما يُمكن إرجاع الأمر إلى فقدانه، مؤخّرًا، زوجته وشريكة حياته. لكن، مع مرور الوقت وتطوّر الأحداث، يتضح أن سلوك فاسيل على قدرٍ كبير من عدم الاتزان. أو بالأحرى، يتّسم بطفولية شديدة وعناد تام، ولا ينبثق من حزنه على فراق زوجته.
بعيدًا عن العلاقات الأسرية، يُمكن قراءة "الأب" على نحو آخر: إمعان أصحاب النوايا الشريرة في إلحاق الأذى بأصحاب النوايا الحسنة. فالفيلم يختبر ردود فعلنا، ويجعلنا نفكّر في كيفية التصرف، إنْ كنا في وضع مُماثل. أيضًا، يوجّه رسالة إلى أصحاب القلوب الطيبة، مفادها: ضرورة اتّخاذ موقف عندما تستفحل الأمور، ويتمادى الآخر، وإنْ يكن الآخر أقرب الناس إلينا. فـ"الأب" يُثير دهشة إزاء صبر بافل وطيبته وعدم فراره من أب "مجنون" كفاسيل. كما يُثير سؤالاً عن سبب تصرّف الأب بهذا الجفاء والغلظة، وبتلك الطفولية، تجاه ابنه.

نظرًا إلى اختلاف شخصيتيهما، حصل تباعد وشبه انقطاع في العلاقة بين فاسيل، المُزارع الذي بات في سبعينيات عمره، وبافل، مُصوّر الإعلانات، في أواخر أربعينياته. الانفصال ليس روحيًا وإنسانيًا فقط، بل مكانيًا أيضًا. يضطرّ بافل إلى حضور جنازة والدته في بلدته الريفية. هذه "زيارة" يُفترض بها ألّا تتجاوز الساعات القليلة. لكنها امتدت إلى أكثر من يومين، ترك فيهما زوجته الحُبلى المحتاجة إليه، وعمله المتراكم، ومديره المُلحّ. حدث هذا بسبب تصرّفات فاسيل، المتّسمة بحماقة وطيش وعناد. أفعاله أحدثت مواقف كثيرة، جعلت الفيلم كوميديا سوداء، وأوصلته أحيانًا إلى درجة الهزل.

غرابة فاسيل بادية منذ اللقطة الأولى، إذ أصرّ على رفع النعش من القبر، وفتح غطائه ليلتقط صورًا فوتوغرافية لزوجته، بعد رفض بافل القيام بهذا، وسط دهشة الجميع وعدم تصديقهم. المواقف مُتعددة: نومه عاريًا وسط غابة؛ قيادة سيارة بافل تاركًا إياه على الطريق، من دون حذاء؛ مطاردة مزارعي قرية له بعد سرقته عربة بحصانٍ؛ إلخ. الجميل في المواقف انبثاقها فنيًا من عمق الدراما، فهي غير مقحمة عليها. والعلاقة بين فاسيل وبافل لم تقع أبدًا في الافتعال أو المبالغة. ببساطة، هناك فشل في التواصل بين شخصين، يتناقض أحدهما مع الآخر رغم صلة الدم بينهما، ما أفرز تصرّفات نابعة، فعليًا، من شخصيات مرسومة بدقة وحِرفية، تمّت تأديتها بصدق كبير، من دون تكلّف أو اختلاق.
"الأب" متماسك وممتع للغاية، بجودة فنية وموضوعية عميقة. مشوّق ومهمّ بسبب المسألة التي يطرحها. لكن المثير للانتباه، أنه من إخراج ثنائي بلغاري، كريستينا غروزيفا وبيتار فالتشانوف، بسبب التناغم الواضح بينهما في العمل، إذْ لا توجد هنات يُمكن إرجاعها إلى تقصير، أو عيوب إخراجية ناجمة عن اختلاف الآراء بينهما، أو تضاربها، وهذا يطرح أسئلة كثيرة عن تجربة الإخراج المشترك، خصوصًا أنّ غروزيفا وفالتشانوف يعملان معًا منذ عام 2015 في إخراج أفلام روائية ووثائقية.

المساهمون