ريتشارد لوانستين: "مُقتنع بأنّ الحقيقة تكمن في التسلية نفسها"

ريتشارد لوانستين: "مُقتنع بأنّ الحقيقة تكمن أحيانًا في التسلية نفسها"

28 اغسطس 2019
ريتشارد لوانستين: الأصالة هي الأهمّ (سيمون شولتر/ذي آيدج)
+ الخط -

أنجز المخرج الأسترالي ريتشارد لوانستين أفلامًا روائية ووثائقية، أبرزها "مات وفي يده فلافل" (2001). إلاّ أنّه اشتهر كثيرًا بالـ"فيديو كليبات" التي صوّرها لفرق موسيقية مشهورة، كـINXS وU2.

في جديده، "أسطرة مايكل هاتشنس"، روى لوانستين سيرة مغنّي فرقة INXS، الذي انتحر عام 1997 عن 37 عامًا. ولتحقيقه، نبش المخرج في أرشيفه وأرشيف المغنّي، لرسم بورتريه عن فنّان يصعب فهمه.

عن أهمية الوثائقي، وعن أمّه التي ألهمته، وعن الـ"فيديو كليب" في عالم مهووس بالانتشار، أجرت "العربي الجديد" الحوار التالي مع لوانستين.

(*) ما الذي شجّعك على تصوير هذا الفيلم؟
- أحبّ رواية القصص. أحيانًا، أنجح فيها، وأحيانًا أنجح بنسبة أقلّ. لذلك، أحاول في كلّ مرة أنْ آتي بشيء مختلف. في مرحلة، كنت أنوي تصوير فيلم روائي عن مايكل هاتشنس. ثم نظرتُ إلى التفاصيل كافة، فوجدتُ أنْ كلّ شيء في حياته أشبه بميثولوجيا أو بتراجيديا إغريقية. هناك شيء فرويديّ في سيرته، خصوصًا مع عثوره على أمٍّ جديدة، وقتل الأب في خاتمتها.

تربّيتُ على الميثولوجيا. قرأتُها كلّها حدّ الامتصاص الكامل، فشعرتُ أنْ حقيقته تكمن في هذه التفاصيل الصغيرة، بعيدًا عن الحكايات كلّها التي نُشرت عنه في صحف الـ"تابلويد". لذلك، فهمتُ بسرعة أنّي إزاء تجربة انغماس، ورحلة عبر الزمن.

يطرح الفيلم أسئلة كثيرة، منها: لماذا يحاول الناس الحصول على الشهرة؟ ماذا يربحون عندما يصبحون مشهورين؟ هل تعتقد أنْ الأموال التي يملكها ألتون جون تجعله سعيدًا؟ طبعًا لا. هناك أسباب أخرى ربما تجعله سعيدًا.

(*) أنت سينمائي خارج التصنيف.
- إذا كنتَ تقصد أنّه لا يمكن ترتيبي في إطار، أو اقفالي في علبة، فنعم. هذا جيّد. لطالما سعيتُ إليه. أشكرك على هذا التعليق.

تخرّجتُ في الجامعة، وبدأتُ أنجز أفلامًا روائية، مع ممثّلين ودراما وسيناريو، وهذه الأشياء كلّها. كنتُ أعشق هذا. ثم التقيتُ أناسًا، كمايكل هاتشنس وأعضاء من فرق موسيقية أخرى، فتلقّيتُ عروضًا مُثيرة منهم، حينًا مقابل مال كثير، وأحيانًا بلا مال. لم أستطع رفض اقتراحاتهم، خصوصًا أنّهم قالوا لي: "يُمكنك أنْ تفعل ما تشاء. لديك حريّة تامة". في عالم السينما، نادر جدًا أنْ يعطيك أحد الأطراف هذه الحرية. المنتجون الذين يحاولون التحكّم بك هم الغالبية. لذلك، وجدتُني أنضمّ إلى مغامرات مايكل هاتشنس، وفرقته INXS أو U2.

(*) لا يعلم الجميع أنّك أسترالي، كونك تتكلّم الإنكليزية، فيعتقدونك بريطانيًا أو أميركيًا ربما.
- (ضحك). لدى الناس فكرة نمطية عن أستراليا، يربطونها دائمًا ببول هوغان في "كروكودايل داندي"، أو أشياء مشابهة. اسمي، لوفنشتاين، أصله ألماني. هذا يُحيّرهم، علمًا أنّي ألفظه على الطريقة الأسترالية (لوانستين). والدي يهودي من برلين التي هرب منها خلال الحرب (العالمية الثانية)، لينجو بحياته. صحيح أنّي لا أحمل اسمًا أوستراليًا تقليديًا.

(*) تتحدّث كثيرًا عن عائلتك، خصوصًا عن والدتك التي كانت مصدر وحي لأعمالك. تأثّرتَ بها كثيرًا. كيف حصل ذلك؟
- نعم. أمّي مؤرّخة، تنقل حكايات شفهية. جالت في مختلف أنحاء أستراليا لتسجّل حكايات أناسٍ، وبيدها آلة كالتي تُسجّل بها حوارنا الآن. الغريب أنّي بدأتُ أقتفي خطاها من دون أنْ أعلم. في البداية، كنتُ أعرّف عن نفسي بأنّي سينمائيّ، ثم وجدتني أحمل ميكروفونًا وأسجّل أحاديث مع الناس، وأقوم بما فعلته أمي بالضبط. تستطيع القول إنّها جعلتني فضوليًا، وحمّستني على الاطّلاع والمعرفة. كانت صاحبة طموحات كبيرة.

من جانبي، لطالما وثّقتُ تجارب المهمّشين، من عمّال وكادحين، أي كلّ هؤلاء الذين تجاهلتهم كتبُ التاريخ. أنا أمشي على خطاها اليوم. كانت تؤمن كذلك بأن علينا أرشفة كلّ شيء، لأنّنا سنحتاج إليه يومًا ما. هذا ما أفعله أيضًا، فبعد الانتهاء من مونتاج فيديو كليب، هناك دائمًا "راشز" (مواد مُصوّرة) لا نستخدمها، أحتفظ بها، خلافًا لشركات كثيرة ترميها في القمامة.

(*) مواد الأرشيف عادت إلى الواجهة في الآونة الأخيرة. شاهدتُ فيلمين هنا في "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي" (2019) مصنوعين حصريًا من مواد أرشيفية: "فورمان ضد فورمان" و"مارادونا". ما رأيك بهذه الظاهرة؟ وفي اعتقادك، لماذا انتبه السينمائيون الآن إلى إمكان استخدام الأرشيف بهذه الكثافة؟
- الجواب بسيط: الدوافع اقتصادية. إلى الآن، كانت عمليات الـ"سكانر"، التي تخضع لها المواد الأرشيفية لتصبح صالحة للعرض، مُكلفة جدًا. التكنولوجيا الحديثة خفّضت الكلفة كثيرًا. مقابل مبلغ لا يتجاوز 20 ألف دولار أميركي، يمكنك شراء "سكانر"، وتصوير كلّ ما تريده من مواد قديمة بالأشعة. قبل 10 أعوام، كانت الكلفة أضعاف هذا المبلغ.

الأرشيف مُكلفٌ جدًا، لكن تراكمت عندي مواد كثيرة عبر الأعوام. كما قلتُ لك، أحتفظ بكلّ شيء، ولا أرمي شيئًا.

(*) ما الميزة التي على مخرج الأفلام الوثائقية أنْ يتحلّى بها؟
- الأصالة. البحث عن الحقيقة في الموضوع الذي يشتغل عليه. إذا كان يصوّر شخصًا، فالتقاط حقيقة هذا الشخص حاسم في عملية إنجاز الفيلم. عليه إسقاط الأقنعة لكشف واقع الشخصية. أخيرًا، اقتناص اللحظات التي تفلت منه، وهي لحظات تقول الكثير من المسكوت عنه.

في فيلمي هذا، إذا لاحظتَ، نرى مايكل في بعض المقابلات وهو يمتنع عن أي كلام، ولا يقول شيئًا البتة. وجدتُ أنْ لحظات الصمت هذه تقول أكثر من الكلام.

(*) أنتَ تبحث عن الحقيقة. لكن، أمتأكّد أنتَ من أنّ المُشاهد يبحث كذلك عن الحقيقة، أو أنّه لا يريد سوى التسلية؟
- التسلية بالتأكيد (ضحك). لكنّي مُقتنع تمامًا بأنّ الحقيقة تكمن أحيانًا في التسلية نفسها. إذا ضحكتَ أو بكيتَ أو خفتَ في فيلمٍ ما، فهذا يعني أنْ هناك حقيقة في مكان ما، تجعلك تشعر بهذا كلّه. أنتَ تتماهى مع الممثّل أو الممثّلة. هناك استحضار للذكريات يضعك في حقيقة معينة.

بالعودة إلى سؤالك السابق عن ميزة السينمائي، أنا أؤمن بأنّ إحدى وظائفه هي جعل المُشاهد يتسلّى ويلتهي. هذا واجبه. التسلية في مفهومي تعني أنْ آخذ المُشاهد في رحلة. وثائقيات عديدة تحافظ على الـ"فورما" (المقياس) الأصلية لصورة الأرشيف المستخدمة. أنا أردتُ العكس. هذا يأتي من رغبتي في أنْ ينغمس المُشاهد في الصورة. وددتُ أنْ أقول للمتلقّي: "تعالَ آخذك في رحلة". رحلة شبيهة جدًا بتلك التي عاشها مايكل. لذلك، استعملتُ صوت الـ"دولبي" والشاشة العريضة.

(*) هل تُجري بحوثًا كثيرة قبل دخول مرحلة التصوير، أم أنّك تلجأ إلى منهج البعض، أي أنّك تفضّل أنْ تكتشف الأشياء وأنت تصوّر؟
- عادةً، أجري بحوثًا كثيرة. لكن، في حالة مايكل، كنتُ أعرفه جيدًا.

لأكن صريحًا معك: البحوث اليوم صارت تقتصر على البحث عن معلومات عبر "غوغل". لا أحد ينزل ميدانيًا، ويستقصي. 3 اشتغلوا على المونتاج، وأنا أحدهم. أجريتُ مقابلات كثيرة، أمْلَت طريقة بناء الفيلم.

(*) اشتهرتَ بتصوير أشرطة "فيديو كليب" كثيرة. ما رأيك بـ"الفيديو كليب" حاليًا، بعدما صارت أشرطته تتشابه كلّها، شكلاً ومضمونًا؟ لم يعد هناك إبداعٌ كثير في هذا المجال.
- ما تقوله صحيح. اليوم، كلّ همّ المخرجين الذين ينجزون هذه الـ"فيديوهات" هو الانتشار. لا شيء آخر يُشغلهم. يصعب جدًا أنْ يشاهدك مليار شخص على "يوتيوب"، إلّا إذا كنتَ بيونسي. النجوم الكبار كسالى، لا يكترثون بالتجديد. يسعون فقط إلى منافسة بعضهم البعض على مستوى الانتشار الإلكتروني. لكن، ما ينجح في "يوتيوب" اليوم هو الـ"غيميكس"، أي العناصر الجاذبة التي تجعلك ترسل الفيديو إلى صديقك. هذا يخلق فراغًا بين الموسيقى التي تسمعها والصُوَر التي تشاهدها. هذا الفراغ يصل أحيانًا إلى حدّ انقطاع أي شكل من أشكال التواصل بينهما. غالبًا، يسمع المخرجون الموسيقى، ويحاولون وضع صُوَر تليق بها.

الـ"كليب" دعاية للمغني. في نظري، إذا صُنع بشكل ينسجم فيه الصوت مع الصورة، فالدعاية تكون أقوى. لكن، لا أحد يفعل هذا اليوم. كلّ ما يهمّهم هو عدد مُشاهدات الفيديو.

عندما صوّرتُ أغنية لـINXS في براغ، قبل أعوام، اشتغلتُ كثيرًا على تطابق الصورة والموسيقى، فكان فيديو أشبه بفيلم قصير، إلى درجة أنّ الاستماع إلى الأغنية كان يذكّرك بالفيديو، والعكس. أحبّ الناس هذا الربط بين البصري والسمعي. لهذا، كثرٌ يعشقون الموسيقى التصويرية العظيمة في بعض أفلام سرجيو ليوني وألفرد هيتشكوك. اليوم، يبدو لي أنْ شركات الدعاية هي التي تُملي على المغنين والمخرجين ما يجب فعله، للوصول إلى أكبر عدد من المُشاهدين.

 

المساهمون