لعبة المُشاهدة

لعبة المُشاهدة

13 مايو 2019
"الحاسة السادسة": متعة المُشاهدة المتكرّرة (فيسبوك)
+ الخط -
يستاء مخرجون عديدون من كتابة نقدية أو صحافية تكشف، في تحليلها أفلامًا لهم، جوانب كثيرة من القصّة أو الحبكة. يرون في هذا استباقًا لن يستسيغوه، لأنه ـ بالنسبة إليهم ـ يفضح المضمون. يظنّون أن سردًا لمسار القصّة/ الحبكة يُعطِّل المُشاهدة، ويُفرّغها من مفاجآتها وإثارتها دهشة أو صدمة أو تفاعلاً. يتناسون أنّ السينما أكبر من قصّة، وأن الصُوَر المبثوثة على الشاشة الكبيرة أعمق من حبكة، وأن المعالجة والتمثيل والتقنيات أهمّ من كشفٍ، إذْ يستحيل نقل هذا كلّه، بما يُثيره من انفعالات، إلى كلماتٍ. يعتقدون أن القصّة/ الحبكة أساسية، وهذا صحيح لكنه لن يكون الأساسيّ. يتغاضون عن أنّ كلّ كتابة، نقدية أو سردية أو تحليلية أو تفكيكية، لن تحول دون مُشاهدةٍ، فهي المُراد لمُشاهدين يهتمّون ويتابعون، وإنْ يقرأوا فقراءاتهم لن تُعطِّل شغف المُشاهدة لديهم.

هذا ينسحب على مُشاهدين أيضًا، يُفضّلون عدم القراءة قبل المُشاهدة. يكتفون بمعلومات عامة، فأسماء عاملين في الأفلام تكفيهم لاختيارها، من دون التغاضي عن أن مواضيع وأساليب اشتغال كفيلةٌ بتحريضهم على المُشاهدة المطلوبة. ينفضّون عن قراءة نقد أو تحليل، ولعلّ بعضهم يختار حوارًا مع مخرج أو ممثل أو فنان صورة أو توليف أو موسيقى إلخ. آخرون يقرأون قبل المُشاهدة، ويختارون بناءً عليها. لا علاقة لهذا بنتيجة خياراتهم، إذْ يكتشفون لاحقًا أن المكتوب عن الأفلام يتناقض مع ما يرونه فيها، أو العكس. هذا جزءٌ من لعبة خفيّة بين ثلاثة أطراف: الفيلم ومُشاهده وناقده. لعبة جميلة رغم توتّر يحصل فيها، إذْ تقع خلافات بين الجميع أحيانًا، أو يتوافق أحدهم مع الآخر، أو مع الطرفين الآخرين.

استياء مخرجين من "فضح" أفلامهم أمام قرّاء يرغبون في المُشاهدة يختلف، كلّيًا، عن آلية عمل يعتمده بعضهم أثناء التصوير، إذْ يفرض البعض حصارًا خانقًا على العاملين جميعهم، مانعًا أحدًا منهم من التفوّه بكلمة واحدة عما يحصل في الاستديو أو موقع التصوير، وعما تقوله الحكاية، وعن يوميات العمل. ستانلي كوبريك مشهورٌ بهذا. يوسف شاهين أيضًا. الكتابة النقدية والصحافية مختلفة. "كشف المستور" يُزعج مُخرجين، وبعضهم يُفضّل عدم إجراء حوار قبل الانتهاء من تحقيق الفيلم، أو قبل عرضه. هؤلاء مُحقّون إلى حدّ ما، إذْ يشعرون ربما بنقصٍ في الثقة بالنفس وبما يفعلون، لأن "عبقرية الإبداع" لن يكسرها سرد قصّة، إنْ تكن الأفلام مرتكزة على قصّة محدّدة، رغم أن كثيرين يرون السينما انفعالًا وأحاسيس ومَشَاهد وصُوَرًا وتقنيات، بينما القصّة تأتي لاحقًا رغم أهميتها. مخرجون يصنعون حصارًا على عاملين معهم، وهذا جزءٌ من اشتغالهم مهمّ وضروري. التسريبات قاتلة، فهي غير متمكّنة من معطياتها الكاملة، وأي قول تبوح به لن يكون كاملًا أو وافيًا، ما يؤثّر سلبًا على العمل برمّته. التسريبات تكون أحيانًا نتاج "نمائم" تريدها صحافة فنية.

هناك استثناءات. منتجون وموزّعون وصانعو أفلامٍ يطلبون من المُشاهدين عدم كشف الحكاية أو الخاتمة أو تفاصيل معيّنة لآخرين يريدون المُشاهدة. هذا جزءٌ من ترويج إعلامي، ومن إثارة حماسة المُشاهدة، ومن الاحتفاظ بالمفاجأة. هذا حقٌّ. نقّاد وصحافيون يلتزمون عدم البوح بما يرون أنه يؤثّر سلبًا على المُشاهدة. التزامهم أخلاقيّ، فبعض الأفلام تحتاج إلى صمتٍ مطبق قبل وصولها إلى مشاهديها. لكن العصر تقنيّ للغاية، ووسائل التواصل الاجتماعي أسرع في نشر خبرٍ أو حكاية أو موضوعٍ. لهذا، تعرض إدارة مهرجان "كانّ" أفلام المسابقة الرسمية و"نظرة ما" أمام الصحافيين بالتزامن مع عروضها الدولية الرسمية الأولى، وليس قبل العرض الدولي، منعًا لانتشار آراء تسبق إطلاق الفيلم رسميًا.

مع هذا، فإنّ أفلامًا أخرى تُشَاهَد مرارًا من دون أن يخفّ وهج الصدمة أو الدهشة أو الإثارة أو التفاعل (أحيانًا يزداد هذا مع كلّ مُشاهدة إضافية). "الحاسّة السادسة" (1999) لأم. نايت شامالان مثلٌ. مُشاهدته الأولى تكشف نهايته الصادمة. لكن مشاهدات لاحقة غير قادرة على تغييب الصدمة والدهشة والتشويق والإثارة، لدى مُشاهدين كثيرين. هذا مرتبط بجمالية الاشتغال لا بمعرفة القصة أو الخاتمة.

اللعبة مستمرّة. إنها جزءٌ من صناعة السينما، ومن فعل المُشاهدة.

المساهمون