إعادة تشييد "الأبراج": تسويق للنوستالجيا وجماليات ما مضى

إعادة تشييد "الأبراج": تسويق للنوستالجيا وجماليات ما مضى

22 يونيو 2018
يصدق الأشخاص وصفاً إذا قُدم بصفته ينطبق عليهم (Getty)
+ الخط -
أعاد البعض، تزامناً مع انطلاق مسابقة كأس العالم، نبش صفحات المدرب الفرنسي السابق ريمون دومينيك الذي أشرف على تدريب المنتخب الفرنسي بين عامي 2004 و2010. كان للمدرب ما ميّزه عن غيره حينها، إلا إن إحدى سماته هي التي ذكرت دون غيرها، وهي اعتماده أثناء انتقاء اللاعبين على "الأبراج" وتفضيله -أو كرهه- لبعضها.

لا شك أن الأمر بدا، ولا زال ربما، غريباً أو غير "علميٍ"، لكننا اليوم -تحديداً- يمكن أن نجد من يستطيع إحكام قبضة "المنطق" على ما قام به دومينيك. ولم لا؟ ما دام أفراد "العقرب" أكثر عرضة لإفساد طموحات منتخب ما، كما سيقول برجهم.

نستطيع هنا أن نتساءل عن الأسباب واللحظة التي أنعشت هذا العلم الذي لم يحظَ بشعبيةٍ مماثلة منذ فترة لا بأس بها، على مستوى عالمي، وليس محلياً أو إقليمياً وحسب.

كي لا نكون جديين جداً

هل يحتمل أن يكون الأمر، إلى حدٍ كبير، مجرد مزحة؟ بالطبع. إذ تجيب نسبة لا بأس بها، ممن يتعاطون مع عالم الفلك السحري، بأنهم لا يصدقون هذه التنبؤات بدرجاتٍ متفاوتة، ابتداءً من كونها تصيب وتخيب أحياناً، وانتهاءً بمن يعتبرها مجرد ظاهرة اجتماعية أخرى، ومجرد رسائل أخرى، تنتج بكم هائل وتستهلك سريعاً من قبل الجيل "المتصل" دوماً.

لا تقدم الفكرة السابقة إجابة بقدر ما تفتح الباب لتساؤلات أخرى، سواء تلك المتعلقة بالتواصل الاجتماعي، أو بالمشهد اليوم بشكلٍ عام، الذي يتخلله القلق وفقدان اليقين والشعور الدائم بكوننا مراقبين، أو العوامل الأخرى كتنظيم هذا العالم السحري ضمن أطر عالم "الأعمال". وسنحاول قدر الإمكان المرور على هذه العوامل.



الوسيط المناسب

ليس من المبالغة في شيء أن نعزو هذه الظاهرة بشكل رئيسي إلى وسائل التواصل الاجتماعي. قد تبدو العبارة السابقة أشبه بخلاصة غاضبة لفردٍ من الأجيال السابقة التي تعجز عن مواكبة العصر، لكن الأمر ليس كذلك؛ إذ إن ثمة ما يبرر كل شيء.

ولنعد إلى صراع الأجيال الذي ذكرناه. من المثبت أن أجيال الألفية هي القوة الدافعة للإنترنت، الذي يُصمَم محتواه ليلائم الزبائن المفترضين ضمن علاقة تبادلية. ولمّا كان من المستحيل وسم هذا المحتوى بسمة واحدة، لشدة تنوعه، فإننا نستطيع النظر إلى الجزئيات الأبرز فيه والأكثر حضوراً، وسنجد أن هذا المحتوى صوريُّ الطابع، كلامه قليل ولـ "موجته" طابع إيجابي (أياً كان معنى الكلمة اليوم).

ينطبق هذا بشكلٍ كلي على حالة الأبراج؛ إذ نجد أنفسنا أمام وحدات مقتضبة، تميل إلى النصح والتصالح وإيجاد ثغرات الأمل، إضافة إلى أنها مغرقة في العمومية إلى الدرجة التي تسمح بتفسيرها كيفما اتفق، بحيث يجدها القارئ معبرة عنه. وفي هذا الشأن تحديداً، تورد جولي بيك في "ذي أتلانتيك" شيئاً عن هذه النقطة، وتقول بالاعتماد على دراسة سابقة، إننا نميل إلى تصديق وصفٍ شخصي إذا قُدم بصفته ينطبق علينا. وفي حالات أكثر تطوراً، فإن بعض تطبيقات الأبراج تقدم على حد وصفها تنبؤات أكثر دقة اعتماداً على الخوارزميات والمتغيرات الشخصية.


ما يميّز الهرب

وإذا كان حديثنا عن "الأبراج" في عصرنا هذا، فإننا يجب أن نتطرق إلى أشكال عرضها الأخرى. إن ما ساعد "تريند الأبراج" على الصمود حتى اللحظة، في عصرٍ يصفه تيري إيغلتون بأنه يحيل ما مضى عليه عشر دقائق إلى سلة المهملات، هو مرونتها لتلائم الأشكال المختلفة، ولنذكر الميمز مثالاً التي لم يصبح جزء منها مكرساً للأبراج وحسب، إنما بات أبرز الأشكال التي تحمل رسائلَ كهذه. وعند النظر إلى الـ"ميمز"، بسرعة توالدها وانتشارها وتغطيتها كل جانبٍ من جوانب الحياة اليوم، سنجد أن الرهان عليها غالباً ما يكون رابحاً.

أكثر من ذلك، يبدو عالم الأبراج -بالتشارك مع صيحاتٍ معينة في الموضة والفنون- باحثاً عما هو أكثر من جذر مشترك، ونقصد بذلك العودة عقداً أو اثنين إلى الوراء. جميعنا نلاحظ هذه العودة، عبر المشاهدة البسيطة في مجالات الموضة أو التصوير مثلاً، أو البحث الذي يودي بنا إلى ما تعتبره مجلة "فوربس" تسويقاً للنوستالجيا وجماليات العقود المنصرمة، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الملاحظات عن كون أجيال الألفية ميالةً لهذه النوستالجيا فإن الصورة تصبح أكثر اكتمالاً.

ومن المؤكد أن الهرب إلى الوراء ليس سمة بارزةً لهذا العصر، بقدر ما هي ظاهرة طبيعية. سواء كانت بهذا الشكل، أو كما فعل مثاليو الستينيات حين هربوا بمخيلاتهم إلى ما قبل الثورة الصناعية، أو كما يفعل متعصّب للعرق الأبيض اليوم. على أن ما يميز الهرب اليوم هو الثورة الاتصالية، التي تسمح، على حد وصف البعض، بوجود واقعٍ موازٍ نلجأ إليه هرباً من عوامل عدة، كالضغوط الاقتصادية والاجتماعية لتبلغ حد التخوّف البيئي والأرض التي ورثتها أجيال اليوم.

لكن رحلة الهروب هذه لا تلبث أن تكشف عن مصاعبها هي الأخرى. قس ذلك على مستوى بسيطا، كالذي يحدثه الـ Screen Shot، أو ذاك المعقد الذي يجعل بياناتنا عرضة للتلاعب، كما أثبتت واقعة "كامبريدج أناليتكا" منذ أشهر. وإزاء مخاطر كهذه (في الملاذ طبعاً، بصرف النظر عن تلك التي تكمن في "الواقع")، يشتد عود الميل إلى "البساطة".

وتشبه بيك في مادتها في "ذي أتلانتيك" الرحلة هذه بأخرى حدثت سابقاً، فيصبح طريقها شبيهاً بذاك الذي انتهى بـ "الرومانسية" كرد على عقلانية عصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

المساهمون