عن حال المصري التائه في مطار تركي

عن حال المصري التائه في مطار تركي

18 فبراير 2020
زيادة كلفة الإنتاج تخنق صناعة الأثاث في مصر(فرانس برس)
+ الخط -


في مطار صبيحة التركي شديد الزحام، اقترب مني رجل طويل قمحي اللون يغلب على وجهه الحزن والتعب، وقال بصوت خافت: هل أنت مصري؟

قلت له: "نعم، وأفتخر"، فتهللت أساريره وكأنه عثر على ضالته، قائلا "الحمد لله"، كررها ثلاثاً مع أخذ نفس عميق وكأنه وجد شيئا ثمينا فقده منذ ثوان معدودة.

قال: "الحقني يا أستاذ، أنا تائه وسط هذا الزحام، لا أعرف كيف أتعامل مع من حولي، لا أفهم شيئاً، فأنا لا أجيد اللغة التركية ولا حتى الإنكليزية، أنا إنسان خام، لا أعرف أي شيء".

وقبل أن أنطق بكلمة سألني فجأة: هل تذكر فيلم "تايه في أمريكا"؟ قلت له: "نعم، ذلك الفيلم الذي يحكي عن شاب يهاجر إلى الولايات المتحدة ويتوه في شوارع واشنطن، ويقوم ببطولته خالد النبوي وحلا شيحة ومحمد لطفي"، فقال: "فتح الله عليك"، وبخفة دم المصري ضحك قائلاً: "أنا هذا التائه، لكن في تركيا".

سارعت لتهدئة روعه قائلا له: "لا تقلق، أنا معك حتى تستقل طائرتك إلى القاهرة، وسأطمئن عليك حتى تصل إلى بيتك في مصر".

رسم بسمة صافية على وجهه، قائلا: "أنا متأكد من ذلك، نحن أولاد بلد واحد، والشهامة تظهر في الشدائد".

كان المطار شديد الزحام في ذلك الوقت، إذ أُلغيت جميع الرحلات الجوية بسبب حادث وقع لطائرة تركية شطرتها العواصف والطقس السيئ إلى ثلاثة أجزاء، جزء منها طار إلى خارج أسوار مطار صبيحة الدولي الواقع في الجزء الآسيوي من مدينة إسطنبول.

ساعتها لم يعرف المسافرون الكثر، ما الخطوة التالية، هل سيتم استئناف الرحلات الجوية بعد قليل، أم سيتم تأجيلها إلى اليوم التالي، وفي حال تأجيلها ما العمل، هل سنعود من حيث أتينا، أم سيتم توفير إقامة لنا في فنادق قريبة.

ولأن الوقت كان متسعاً أمامنا، جلست أنا والرجل التائه في ركن بالمطار شديد الزحام نتبادل أطراف الحديث، وكأننا نجلس على أحد شواطئ مدينة دمياط المصرية الساحلية التي قدم منها ذلك الرجل، قلت له: "ما الذي أتى بك إلى هنا وأنت لا تجيد أي لغة؟ فأجاب بسرعة: "لقمة العيش يا أستاذ والتي باتت شحيحة وعزيزة في بلدنا"، قالها بكل أسى.

أغراني كلامه بالتعرف أكثر على التفاصيل، قلت له: "احك قصتك"، فقال: "عندي 48 سنة، قبل عامين كنت أمتلك ورشة لصناعة الموبيليا في مدينة دمياط، فأنا نجار أثاث شاطر، أسطى يعني، ومع تراجع عملية بيع الأثاث محليا وانخفاض الصادرات وزيادة كلفة الإنتاج من كهرباء ووقود وأخشاب وعمالة وغيرها أغلقت الورشة كما فعل الآلاف غيري، لألتحق بعدها للعمل في ورشة تاجر أثاث آخر مقابل تقاضي أجر يبلغ 1200 جنيه كل أسبوع".

"كانت الدنيا ماشية والعيشة معدن، هكذا وصف الرجل حاله في ذلك الوقت، خاصة وأن زوجتي تعمل مدرّسة تتقاضى ما يزيد على ألفي جنيه، كان راتبي وراتبها بيمشوا الدنيا من مصروفات على المعيشة وتعليم ثلاث بنات أكبرهن في الجامعة، لكن منذ نحو 6 أشهر قرر صاحب الورشة إغلاقها مع تراجع المبيعات وزيادة تكلفة الإنتاج وانخفاض العوائد وزيادة الديون، هنا وجدت نفسي بلا عمل، تعرضت لأزمة مالية ومعيشية، فما العمل وأنا مطالب بالتزامات يومية؟".

هنا جاءت فرصة السفر إلى إسطنبول للعمل في مصنع أثاث هناك مقابل تقاضي أجر قيمته 600 ليرة كل أسبوع، أي نحو 2400 ليرة شهريا وبما يعادل 400 دولار، وافقت على السفر رغم صعوبة القرار وقسوة البعد عن الأسرة، عملت في الورشة لمدة ستة أشهر.

كانت المعاملة ممتازة من قبل صاحب المصنع التركي، لكن المشكلة الأكبر كانت في معرفة اللغة التركية، كان هناك صعوبة شديدة في التواصل مع من حولي، كنت لا أنطق عدة كلمات في اليوم لعدم إلمامي بالتركية، وهذا يختلف عن طبيعتي المرحة التي تفضل التواصل مع من حولي والأخذ والرد معهم.

من وقت لآخر كان هناك سوريون يتولون مهمة الترجمة من العربية إلى التركية، لكن هذا الأمر أوقعني في مشاكل عديدة، فعندما أختلف مع بعض العاملين معي في المصنع كانوا يترجمون كلامي بشكل خاطئ لصاحب المصنع، بحيث يظهرونني وكأنني أرفض تعليماته، أحيانا كنت أجد الشخص التركي غاضباً مني وبشكل مفاجئ من دون أن أعرف السبب.

اتخنقت وقررت العودة إلى مصر، ولا أعرف إن كنت سأعود مرة أخرى إلى إسطنبول أم لا، كل ما أعرفه هو أنني أحاول البحث عن فرصة عمل بورشة موبيليا في مدينة دمياط التي تعد واحدة من أبرز مراكز صناعة الأثاث حول العالم"، هكذا قال الرجل التائه.

سألته: " وأين مدينة الأثاث الجديدة التي تم افتتاحها قبل شهور، والتي قيل وقتها إنها ستوفر 100 ألف فرص عمل لأهالي دمياط؟ فقال: "سراب لنا أصحاب الورش في دمياط، هل تذكر السيدة التي قالت للرئيس السيسي في افتتاح المدينة: "إحنا عايزين شغل يا ريس.. عايزين ننجح"، هذه كانت تعبر عن أهالي دمياط الذين باتت البطالة تنخر في كل ركن من أركان مدينتهم الصناعية ولم توفر لهم المدينة الجديدة فرص العمل التي وعدوا بها .

وبأسى شديد قال الرجل: "الوضع في دمياط على وشك الانهيار وغير مطمئن، فهناك آلاف من ورش ومحلات الموبيليا والأثاث أغلقت أبوابها، وهناك تجار موبيليا كبار وأصحاب معارض أفلسوا، وبعضهم غير نشاطه، وهناك شباب سافروا أو يبحثون عن فرصة عمل وهجرة غير مشروعة، وهناك زوجات لبعض كبار تجار الموبيليا خرجن إلى الشارع بحثا عن فرصة عمل بعد أن تراكمت الديون عليهم وسدت أبواب الرزق في وجوههم، الوضع في المدينة بات منهارا بعد أن كان الجميع يطلقون على دمياط اسم "كويت مصر".

المساهمون