هل فعلاً مات أحمد سعيد؟

هل فعلاً مات أحمد سعيد؟

13 يونيو 2018
طارق عامر محافظ البنك المركزي المصري (فرانس برس)
+ الخط -

ارتبط اسم وصوت الإذاعي المصري المخضرم أحمد سعيد، المتوفى قبل أسبوع، وأحد أهم رواد العمل الإذاعي العربي، بواحدة من أكبر نكسات مصر في تاريخها الحديث، عندما تولى مهمة إذاعة البيانات الرسمية الواردة إليه خلال حرب 1967، والتي كانت تتحدث عن إسقاط عشرات الطائرات وتدمير مئات المعدات للعدو، بينما كانت الإذاعات العالمية تتحدث عن هزيمة مدوية للقوات المصرية والسورية، وسقوط سيناء بيد قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي.

نسي الجميع تاريخ الرجل المهني، وشهرة صوته الذي عُرف من المحيط للخليج، من خلال ترؤسه لإذاعة صوت العرب لمدة أربعة عشر عاماً، واستحداثه للعديد من أساليب الكتابة الإذاعية، وتتلمُذ العشرات من المذيعين العرب على يديه، والأهم من ذلك أنهم تناسوا أنه – رحمه الله – لم يكن يقرأ أو يكتب من بنات أفكاره، وإنما كان دوره يقتصر على نقل ما يوضع في الورقة التي أمامه إلى آذاننا.

وفي معرض رده على سؤال بخصوص هذا الموضوع، قال سعيد "لا تستطيع أي صحيفة أو إذاعة أو قناة تلفزيونية عندما يأتي إليها بيان من أي وزير في الدولة وهي في حالة حرب أن تمتنع عن نشره".

ولا أعرف حقيقةً ما كنت سأفعله لو كنت مكان المرحوم في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الوطن، ولذلك فلا أقول إلا الحمد لله الذي عافانا.

يوم 30 مايو/أيار الماضي، وبعد مرور خمسة أشهر على نهاية عام 2017، أعلن البنك المركزي المصري أن حجم الدين الخارجي المصري بلغ 82.9 مليار دولار. ورغم تأخر إعلان الرقم لمدة تزيد عن المائة وخمسين يوماً، لم يقدم البنك المركزي أية مبررات للتأخير، مع العلم أن هذا الرقم يكون معلوماً بنسبة تأكد 100% بصفة يومية.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الرقم يظهر صراحة في المركز المالي للبنك المركزي، والذي يتم إعداده في نهاية السنة، وربع السنة، والشهر، وكلها مواعيد محددة يتم عمل مركز مالي فيها لكل أنواع البنوك حول العالم، صغيرها وكبيرها، خاصة كانت، أو عامة أو مركزية، تجارية أو استثمارية أو متخصصة، وكلها أيضاً تنطبق، أو كان ينبغي أن تنطبق على تاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول من كل عام.
الرقم إذاً معروف لهم، ومكتوب في دفاتر رسمية. فلماذا لا يتم الإعلان عنه في وقته؟ ولماذا ننتظر حتى نهاية مايو/أيار لنعرف رصيد الدين الخارجي، وهو بند يؤثر في سعر كل شيء من حولنا، بداية من رغيف العيش، ومروراً بسعر الوقود وتكلفة الانتقال، وحتى ما يدفعه كل مواطن للحصول على الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وصرف صحي.

الأغرب من ذلك، أن البنك المركزي نفسه سبق وأوضح في الرابع من إبريل/نيسان ومن خلال نشرة طرح سندات مصرية باليورو، التي لا يعرف ما بها أكثر من 99% من الشعب المصري، وصول الدين الخارجي إلى الرقم المذكور.

فما المبرر إذاً لتأجيل الإعلان الرسمي عنه رغم التصريح به للبنوك والمستثمرين الراغبين في شراء السندات المصرية؟ وهل يلتزم البنك المركزي بقواعد الإفصاح عند طرح السندات للبيع، بينما لا يعنيه كشف الحقائق في وقتها للشعب المصري ونوابه؟ وهل يصح إخفاء هذا الرقم بينما يواصل صعوده لمستويات تاريخية لم يسبق تحقيقها في أي وقت مضى؟

لم يكن الدين الخارجي وحده هو ما تم إخفاؤه، فلا توجد أيضاً بيانات منشورة عن الدين العام، الذي وصل بدوره لمستويات غير مسبوقة. ورغم محاولات البحث المضنية، لا توجد أية أرقام رسمية تشير إليه.

وعلى موقع وزارة المالية المصرية على الإنترنت، وهي الجهة المسؤولة عن الدين العام في مصر، وتحت عنوان رئيسي "الدين العام"، تتوقف آخر بيانات منشورة باللغة الإنكليزية عند نهاية مارس/آذار من عام 2015، بينما تمتد البيانات المنشورة باللغة العربية إلى مارس/آذار 2017.

ولا يبدو أن البنك المركزي المصري، من واقع موقعه على الإنترنت، على صلة بالأمر !

وكلما اقترب المسؤولون من موضوع الدين العام، لا نسمع منهم إلا إشارات مبهمة، من نوعية أنه "تضاعف عدة مرات"، أو أننا "نحاول تخفيضه كنسبة من الناتج المحلي"، ودون التطرق إلى مستواه الحالي.

يحدث هذا في مصر الآن، بينما يوجد في بعض الدول ما يطلق عليه "ساعة الدين"، التي يمكن من خلالها معرفة حجم الدين العام، بتقسيماته المختلفة، في كل لحظة. 

أكاد أرى أكثر من أحمد سعيد في وقتنا الحالي، حيث توجد الأزمات التي يشعر بآثارها الجميع، في أكثر من اتجاه، لكن من بيده المعلومة يفضل أن يخفيها. لا أعرف إن كان ذلك بدافع التخفيف عنا، كأن يعتقد أن الجهل نعمة، أم أنه يرى أنهم وحدهم من يتعين عليهم معرفة حقيقة الأوضاع التي نمر بها، وسيتولون هم نيابةً عنا التعامل معها، أم أنهم يتوقعون أن تؤدي معرفتنا لبعض الأمور إلى اتخاذنا مواقف لا يرغبون فيها.

مهما كان الأمر، فمن المؤكد أن منهج أحمد سعيد لم يعد يصلح لهذا العصر، وأن ما كان إخفاؤه ممكناً قبل خمسين عاماً، لم يعد كذلك الآن، وأن بعض الكوارث تتفاقم آثارها السيئة عند التأخر في الإعلان عنها.

تأجيل إعلان الحقائق لن يجدي. وإخفاؤها لا يعني أنها غير موجودة. وأغلب الظن أنه لو كان لدى المسؤولين خطة واضحة للتعامل مع تضخم الدين، عاماً كان أو خارجياً، لما ترددوا في إعلان الحقائق علينا، على الأقل من أجل التعاون معهم في اتخاذ التدابير اللازمة.

أما لو كان هؤلاء المسؤولون يطمعون في إسقاط بعض تلك الديون، وتحديداً الخليجية منها، في مقابل أية اتفاقات تبادل، أو صفقات قرن، أو تنازلات جغرافية جديدة، فبالتأكيد سيكون لهذا حديث آخر.

المساهمون