أحمد سعيد... ضحية النكسة المتهم

أحمد سعيد... ضحية النكسة المتهم

06 يونيو 2018
ترأس إذاعة صوت العرب منذ 1953 (فيسبوك)
+ الخط -
ظلّ الإعلامي الراحل أحمد سعيد الفارس الإذاعي الأول معظم سنوات الحقبة الناصرية، فقد تزامنت رئاسته لإذاعة صوت العرب منذ تأسيسها سنة 1953 (لمدة 14 سنة) مع العصر الذهبي للإذاعة، إذ كانت المصدر الإعلامي الأول للمواطن المصري والعربي، وصاحبة الفضل الأول في دعم المد القومي وحركات التحرر العربي.

ظلّ أحمد سعيد في القمة من دون منافس إلى أن سقط سقوطاً مدوّياً بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، وبعد أن تحمّل وحده عبء البيانات الكاذبة التي كانت تُلقى أمامه من القيادة العسكرية. فالجماهير التي التفت حول المذياع لتسمع صوته وهو يقول إن قواتنا الآن أسقطت من طائرات العدو كذا وكذا، وأننا أصبحنا على مشارف تل أبيب وقد أوشكنا أن نلقي إسرائيل في البحر؛ أصابتها صدمة انكشاف الحقيقة وضياع الأرض وزوال الهيبة.

وحين خرج الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، المسؤول الأول عن الهزيمة، ليعلن أنه سوف يتنحى ويعود إلى صفوف الشعب، خرجت المظاهرات تطالبه بالعدول عن قراره. في المقابل أُبْعِد سعيد عن منصبه رئيساً للإذاعة التي ارتبطت بشخصه، وقد حُمِّلَ وحدَه خزي البيانات الكاذبة، حين أطلق عليه العقل الجمعي العربي لقب "مذيع النكسة"!

الجانب المضيء في مسيرة أحمد سعيد كان قبل الهزيمة؛ فقد كان الرجل أهم صوت قومي تحرري في الشرق، وهو ما أقلق الفرنسيين والإنكليز. فلغته الحادة ونبرته العالية وإدارته الجادة للإذاعة المناهضة للاستعمار الفرنسي للجزائر والمغرب العربي، والاستعمار البريطاني لليمن والساحل العربي الجنوبي، جعلت الموقف الرسمي للحكومات الاستعمارية منه سلبياً جداً، لدرجة اعتراض الحكومة البريطانية على وجوده ضمن قائمة الوفد المصري المسافر إلى لندن سنة 1965، بعد اتهام مجلس العموم البريطاني له بتهمة التحريض على قتل الجنود البريطانيين في عدن، إذ كادت تحدث أزمة دبلوماسية بسبب ذلك بين البلدين.

ويحكي سعيد أن حكومة فرنسا طلبت، بلسان وزير خارجيتها، كريستيان بينو، من عبد الناصر إيقاف دعم مصر للثورة الجزائرية. كما طالب الوزير الفرنسي التخفيف من عنف هجمات صوت العرب على الفرنسيين في الجزائر وشمال أفريقيا، وأغرى الوزير الجانب المصري بشراء محصول القطن المصري كله في مقابل التهدئة الإعلامية، وهو ما قوبل بالرفض، إذ ربط عبد الناصر الموافقة على تهدئة النبرة الإعلامية لصوت العرب ببدء المفاوضات مع المقاومة الجزائرية.



ويستشهد سعيد بعدد من الكتاب الغربيين، في مقال مطول له بمجلة الهلال المصرية في يناير/ كانون الثاني 2007، الذين رأوا في إذاعة "صوت العرب" قوة ناعمة فرضت نفوذاً مصرياً كبيراً، جعلت من مصر رائدة إقليمية ومن عبد الناصر زعيماً قومياً لجميع العرب في أعقاب حرب السويس.

وقد أدركت الحكومات الاستعمارية في المنطقة مكانة الإذاعة المصرية الناجحة ودورها في توجيه الشعوب العربية؛ فكان لا بد من توجيه ضربة عسكرية لها أثناء العدوان الثلاثي، وهو ما كان متوقعاً، إذ أنشئت محطات بث بديلة تحسباً للضربة المتوقعة.

وحين قُصفت "صوت العرب" خرج عبد الناصر ليخطب من فوق منبر الجامع الأزهر ويقول: "صوت العرب هدف عسكري. أتت طائرات العدو لتضربه. تريد أن تسكت صوت الحرية العربية. صوت القومية العربية. صوت العرب عاد أقوى مما كان. يتكلم أقوى مما كان. يدعو العرب للحرية والوحدة".

وقد استمر أحمد سعيد، بنبرته الحماسية، الصوت الإذاعي الأول طول السنوات التي تلت حرب السويس، وحتى هزيمة 1967، إذ تلتها تغييرات في توجهات الإذاعة وسياساتها الإعلامية، وهو ما لم ينسجم معه أحمد سعيد الذي أصر على أسلوبه التقليدي في حشد الجماهير والتأثير عليهم، لذا طُلب منه أن يأخذ إجازة مفتوحة، رد عليها باستقالة حادة النبرة، قبلها محمد فايق وزير الإعلام في سبتمبر/ أيلول 1967.

وتشاء الأقدار أن يبقى أحمد سعيد طوال نصف قرن كامل في الظل، لا يظهر إلا في مقابلات إعلامية محدودة أو مقالات قليلة تدور حول الإعلام في عصره الذهبي ثم أفول نجمه، ولا يتذكره أحد إلا في تلك المناسبة الحزينة كل عام (هزيمة يونيو/ حزيران)، وهي المناسبة التي توافقت هذا العام مع رحيله عن 92 سنة.



ويقول الباحث العسكري يحيى الشاعر إنه لا يمكن إنكار أن صوت أحمد سعيد، خلال السنوات التي تلت 1956، كان علامة مسجلة لحركة العروبة، وتزايدت حدة إذاعات أحمد سعيد خلال شهور التوتر التي سبقت نكسة حرب 1967.

وزاد الطين بلة أنه أذاع جملة "سنلقيهم في البحر" التي نادى بها أحمد الشقيري رئيس المنظمة الفلسطينية، قبل ياسر عرفات، التي كانت في سياق خطبة للشقيري وجهها للفلسطينيين في الأسابيع التي سبقت حرب 1967.

ويضيف، كانت الدعاية الصهيونية واللوبي الصهيوني ينتظران جملة بهذا الشكل ليكتّلا كافة القوى ووسائل الإعلام العالمية ضد جمال عبد الناصر، بل كانت المفتاح الذي أدخلهما إلى قلب الرئيس الأميركي وغيره من الدول التي أيّدت إسرائيل خلال تلك الأسابيع، وما زالا يعتمدان على هذه الجملة حتى اليوم ليلقيا باللوم على القاهرة ونيتها السيئة.
ويشير إلى أنه ما زالت خطورة هذه الجملة في أن وسائل الإعلام نشرتها وتنشرها عند تداولها حرب 1967، وأنها حركت المشاعر في أوروبا وبالذات ألمانيا، ويعتبرون أن إعادة ترديدها من أحمد سعيد، صوت العرب، ما هي إلا تعبير عن السياسة المصرية الرسمية.

ورغم اختلافات العمل بينهما، فقد كتب الإذاعي المصري، سيد الغضبان، أن أحمد سعيد إذاعي قدير أدى دوراً بالغ الأهمية خلال فترة المد القومي وحركات المقاومة العربية ضد قوات الاحتلال في جميع البلاد العربية، وبالأسلوب الذي رآه مناسباً للمرحلة وحقق نتائج باهرة في تلك الفترة.

دلالات

المساهمون