20 مليون عامل مصري يواجهون "الإجهاد الحراري" في ظروف غير إنسانية

20 مليون عامل مصري يواجهون "الإجهاد الحراري" في ظروف غير إنسانية

25 يوليو 2023
تُقدّر قوة العمل في مصر خلال عام 2022 بنحو 30.3 مليون فرد وفقاً لإحصاء رسمي (فرانس برس)
+ الخط -

تتوقع الأرصاد الجوية ارتفاعاً قياسياً في درجات الحرارة في مختلف أنحاء مصر، التي يكابد فيها نحو 20 مليون عامل الإجهاد الحراري، مضطرين لتحصيل لقمة عيشهم وعيش أسرهم.

ويستمر الطقس الحار لمدة 10 أيام، تزداد فيه درجات الحرارة لتتراوح ما بين 41 شمال الدلتا و45 في جنوب البلاد، مع أجواء رطبة شديدة الحرارة، تشعر المرء بضيق شديد في التنفس، ترتفع حدتها مع الزحام وانتشار الأتربة وضيق المناطق السكنية.

كما تستمر موجة الحرارة القياسية خلال شهر أغسطس/آب المقبل، ما يثير مخاوف على الزراعة والصناعة.

وفيما يبث خبراء الأرصاد الجوية بنصائح عبر أجهزة الإعلام الرسمية على مدار الساعة: "احذروا ضربات الشمس، منعاً للإصابة بالحروق، ننصحكم بتناول كميات كبيرة من المياه، والعصائر الطبيعية، وارتداء الملابس فاتحة الألوان، والعمل مبكراً أو بعد غروب الشمس، بعيداً عن فترة الظهيرة"، يضع السيد عنتر، عامل البناء بإحدى شركات مقاولات ترمم أحد الكباري التي بنيت  منذ عام فقط وسجلت بها أخطاء، على مقربة من أهرامات الجيزة، "غطرة" بيضاء مبللة على رأسه، تحميه من حرارة الشمس الشديدة، ليواصل العمل في منتصف النهار.

الصورة
عمال مصر
(فرانس برس)

ويحمل عنتر قادوماً لتكسير قطع خرسانة بارزة في مسار البناء، تعيق عمله، ويطلب من مساعده تزويده بمخلوط الإسمنت، لتسوية جدران الكوبري، المطلوب إعادة افتتاحه هذه الأيام، فيما يهرول العمال من حوله من أصحاب المهن الأخرى، أحدهما لقطع الحديد، وآخرون يعملون بالرصف، تحت لهيب الشمس، دون هوادة.

تتوقف على مقربة من العمال سيارة يحمل سائقها قوارير مياه باردة يهديها للعمال.

ترك الرجل المكان بسرعة عند محاولة تصويره، قائلاً: "إنه عمل لوجه الله لا تفسدوه بالتصوير"، مضيفاً: "نشعر بهول ما يفعله هؤلاء العمال من جهد، في هذه الأوقات العصيبة، ويكفي أننا ممن يحيون بمناطق راقية نشعر بالضجر، دون أن نعمل، عندما تنقطع الكهرباء، هذه الأيام، فلا نستطيع التنفس داخل بيوتنا، أو الحصول على شربة ماء".

يقدر جهاز الإحصاء قوة العمل في مصر خلال عام 2022، بنحو 30.3 مليون فرد، يعمل 13.2 مليون منهم بالحضر، و17.133 مليون بالريف

يختفي الرجل من المشهد، دون أن يسمع دعوات العمال الذين يواصلون أعمالهم دون كلل، خشية تأخر موعد تسليم الكوبري، فيخسرون بالتالي فرصتهم لكسب قوتهم، في ظل ندرة شديدة في طلبات التشغيل.

ينتمي السيد عنتر لفئة العمالة غير المنتظمة، التي يتزايد أعدادها بتعداد القوى العاملة، في السنوات الأخيرة.

ويقدر جهاز الإحصاء قوة العمل في مصر خلال عام 2022 بنحو 30.3 مليون فرد، يعمل 13.2 مليون منهم بالحضر، و17.133 مليون بالريف. يصل نصيب النساء إلى خُمس الرجال من القوى العاملة، مع ذلك ترتفع نسبتهم في أعمال الزراعة والبناء يمارسن أعمالاً شاقة، في المهنتين المتاحتين أمامهن، بما يعرضهن لقسوة المناخ، حيث العمل بالحقول، وحمل الأثقال، في قيظ الصيف وزمهرير الشتاء.

يعمل في الزراعة 18.9% من القوى العاملة، فيما تمثل عمالة البناء والتشييد 14%، بتعداد 3.9 ملايين شخص، أغلبيتهم الكاسحة على شاكلة السيد عنتر ممن يعملون باليومية أو بعقود تشغيل مؤقتة لدى المقاولين.

وترصد الحكومة هذه الأعمال على أنها فرص عمل رسمية بالمخالفة لمقررات العمل الدولية، مع ذلك يتشبث عنتر بفرصته، قائلاً لـ"العربي الجديد": "ما علينا إلا العمل في كل الظروف، فليس لنا بدائل أخرى".

يدرك عنتر أبعاد الأزمة المالية التي تواجه الحكومة، والتي ظهرت منذ سنوات واستفحلت العام الحالي، وحرمته من قبل من التعيين بالحكومة بعد حصوله على "دبلوم صناعي"، حين لجأت إلى تخفيض عدد العاملين في الدولة سنوياً.

الصورة
عمال مصر2
(فرانس برس)

وتوقفت الدولة عن توليد وظائف بالحكومة، تراجع على إثرها عدد العاملين بها إلى 3.3 ملايين شخص عام 2022، بالتوازي مع 5 ملايين يعملون بالجهاز الإداري، منهم مليونا موظف يعملون بعقود مؤقتة، تحتسب باليومية من بينهم مدرسون وفنيون يحصلون على أجورهم من صناديق خاصة خارج الموازنة العامة بالدولة.

وانخفض عدد العاملين في قطاع الأعمال العام على مدار 5 سنوات إلى 615 ألف عامل وبنسبة 25% عام 2021، وفق بيانات جهاز الإحصاء.

وتظل الأغلبية الكاسحة من العاملين ضمن طابور العمالة غير المنتظمة، بعيدة عن المظلات القانونية التي توفر لها الحد الأدنى من الدخل أو أية مزايا اجتماعية وصحية وإنسانية، عدا بعض المساهمات التي تدفع بها الدولة للعائلات شديدة الفقر، من خلال وزارة التضامن.

يعتبر خبراء حقوق العاملين في مصر مهدورة منذ تعديل قانون الخدمة المدنية وصدور الجديد، رقم 81 لسنة 2016، الذي منح المدراء والجهات الأمنية سلطة فصل موظفي الدولة دون أحكام قضائية، بينما لا تستطيع الحكومة فرض إجراءات حماية لأكثر من 20.4 مليون عامل يشتغلون في السوق غير المنتظمة، أو تدفع أصحاب الأعمال لمنحهم إجازة مدفوعة الأجر، في حال بلوغ درجات الحرارة معدلات تمثل خطورة على حياتهم.

وتكتفي وزارة القوى العاملة برفع توصيات عبر موقعها الإلكتروني يلزم الجهات المختلفة، بمنح العامل إجازة بأجر في حال بلوغ درجات الحرار 50 درجة مئوية، وفق تعليمات منظمة العمل الدولية، دون الالتفات لمطالب حقوقيين بضرورة إلزام الجهات المختلفة بمنع عمال البناء والزراعة ونظافة الشوارع بالعمل تحت لهيب الشمس الحارقة، مع توفير سبل الراحة للعاملين بالمكاتب، في حال عدم وجود مكيفات هواء. 

يوضح مالك عدلي، الخبير القانوني في مجال النقابات العمالية وحقوق العمال، وجود انفصال تام بين القوانين الصادرة بالدولة، لتنظيم وحماية حقوق العمال، وما يجري على أرض الواقع. ويشرح عدلي، لــ"العربي الجديد" كيف تتخلى الدولة عن دورها في توفير أبسط الضمانات الأولية من إجراءات السلامة والصحة المهنية للعمال، رغم وجود قوانين عديدة، تكفل هذه الحقوق، مبيناً اعتياد الحكومات على الاهتمام بالفئات المنتمية إليها دون غيرهم، والموجودة تحت الأضواء رغم أن الدستور والقوانين يلزمان الدولة بالمساواة بين جميع عمال مصر.

الصورة
عمال مصر 3
(فرانس برس)

يشير عدلي إلى أن ارتفاع درجات الحرارة هذه الأيام "تتطلب وقفة قوية، من أجل الحفاظ على صحة المواطنين"، مبيناً ضرورة وقف تشغيل العامل عندما يتعرض لـ"وطأة حرارية تتعدى 26.1 درجة مئوية للرجال و24.5 درجة للنساء".

ويبين الخبير ذاته أن "الوطأة الحرارية هي وحدة قياس محددة بقانون البيئة رقم 4 لسنة 1994، الذي ينص على تنظيم العمل والراحة، وفقاً للتقسيم الفسيولوجي، ويحدد أوقات الراحة للعامل وعدد ساعات العمل، وامداده بالمياه والأملاح، أثناء فترة العمل، وخاصة العاملين بمشروعات البناء والهندسية والزراعية، ومن يتعرضون للإجهاد في العمل، المحدد قانوناً بـ35 درجة مئوية، لمدد تتراوح ما بين 12 إلى 15 ساعة يومياً، ومن بينهم عمال مصانع الطوب والمطاعم والسائقون".

وأكد عدلي أن "القانون يلزم جهة العمل بإجراء فحص شامل لصحة العامل على نفقتها، كل عامين، للتأكد من عدم تعرضه لأمراض مزمنة ناتجة عن الإجهاد، إضافة إلى تنظيم ساعات العمل والراحة، في الفترات شديدة البرودة شتاء أو مرتفعة الحرارة صيفاً، حيث تظهر "الوطأة الحرارية" على جسد العامل في الحالتين".

ويدعو المتحدث ذاته إلى "وقفة جادة من الأحزاب والمجتمع المدني والنقابات، لإجبار الحكومة على ضمان تشغيل العمال في ظل ظروف إنسانية، تحميهم من التعرض للموت"، مؤكداً أن "الجهات الرسمية لا تتابع تلك الإجراءات على مستوى الواقع، ولا تشعر بها إلا في حالة وقوع وفيات أو إصابات شديدة أثناء العمل".

انتشار "العمالة السوداء" في مصر

وأشار إلى أن تخلي الدولة عن إدارة سوق العمل، بمفهومه الشامل، أدى إلى انتشار "العمالة السوداء" التي تسعى للحصول على فرصة عمل، لضمان قوت يومها، دون أن تكون قادرة على تحصيل أية ضمانات تحميها، وتعرضها لمخاطر شديدة.

كذلك، أوضح عدلي أن وجود أغلبية كاسحة تمثل ثلثي القوى العاملة في "سوق العمالة السوداء" يضع الدولة في قائمة سلبية وفقاً للمؤشرات الدولية، في وقت تسعى فيه للحصول على دعم مالي وقروض ميسرة من المنظمات الدولية، تمكنها من مواجهة الإجهاد الحراري، بتنفيذ مشروعات صديقة للبيئة، وفقاً لمقررات مؤتمر المناخ بشرم الشيخ، كوب 27، التي تشترط ضمان توافر الظروف الإنسانية للعمال في بيئة الأعمال.

وتتوقع منظمة العمل الدولية أن يسبب الاجهاد الحراري، الناتج عن تغير المناخ، في الإضرار بالإنتاجية وخسائر بالوظائف والاقتصاد، خاصة في البلاد الأشد فقراً، ومنها مصر، خلال السنوات المقبلة.

وتشير المنظمة إلى توقعات علمية بارتفاع درجات الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية، بنهاية القرن الحالي، إلا أنها ستسبب بحلول عم 2030 في خسائر بالمناطق الزراعية شمال دلتا النيل ونحر الشواطئ الشمالية، تؤدي إلى تآكل المناطق السكنية وهجرات بشرية واسعة، وتزيد من عمق الأزمة الاقتصادية والمائية في دولة يحصل المواطن بها، على أقل من 500 متر مكعب سنوياً، بانخفاض 50% من المعدل العالمي.

ويؤكد خبراء أن مصر لم تعد بعيدة عن درجات الحرارة العالية صيفاً، والتقلبات المناخية شتاء، والوضع يزداد سوءًا.

وفي ظل أجواء شديدة الحرارة، يتعرض موظفو المكاتب لانقطاعات مستمرة في التيار الكهربائي، مع شح الغاز في محطات التوليد، ويظل 20.4 مليون عامل على شاكلة السيد عنتر يحصلون على أجور نقدية، بسوق عمالة غير منتظم، يعملون في أجواء غير صحية صيفاً وشتاء.

المساهمون