لبنان: "تمويل الحكومة" سرقة جديدة لأموال المودعين

لبنان: "تمويل الحكومة" سرقة جديدة لأموال المودعين

11 اغسطس 2023
الغلاء طاول مختلف السلع الضرورية وفاقم معيشة اللبنانيين (رمزي حيدر/فرانس برس)
+ الخط -

تبحث السلطة السياسية في لبنان عن مخرج لأزمة تأمين الأدوية ورواتب القطاع العام والإيرادات اللازمة لتمويل إنفاقها قبل نهاية شهر أغسطس/آب الجاري، في ظلّ تمسّك مصرف لبنان بقرار رفض إقراض الحكومة أي دولار من التوظيفات الإلزامية، والمسّ بالاحتياطي من العملات الأجنبية إلا بتشريع قانوني، الأمر المتعذر حتى اللحظة في ظل عدم انعقاد مجلس النواب، ورفض كتل برلمانية المسّ بأموال المودعين، ولا سيما في ظل غياب الإصلاحات المالية.

كذلك، يحذّر خبراء في الاقتصاد والنقد من خطورة إقرار مجلس النواب قانون يجيز الاقتراض من المصرف المركزي، لما فيه من تشريع لسرقة أموال المودعين، ولنهج الفساد والهدر والمحاصصة، وقطع للطريق على الخطوات الإصلاحية الواجب على الحكومة القيام بها.

مخاوف شعبية
ويتخوّف اللبنانيون من الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها الحكومة لتأمين الأموال، خصوصاً على صعيد فرض ضرائب إضافية تفاقم معاناتهم، وهو مسار مخطّط له أيضاً ضمن موازنة عام 2023 التي لم تقرّ بعد.
وقد لجأت السلطات أخيراً إلى رفع تعرفة الإنترنت 7 أضعاف عمّا كانت عليه سابقاً، في وقتٍ يشكو المواطنون أصلاً من تردي الخدمة، وهو حال الاتصالات التي سبق أن زادت فاتورتها أضعافاً من دون أي تحسين يذكر في الخدمة، كما وضع الكهرباء وغيرها من المؤسسات والقطاعات التي تحاول الدولة وقف مسار تدهورها عبر أخذ الأموال من جيوب المواطنين، من دون القيام بأي خطوات إصلاحية أو تقديم خدمات بديلة لهم أساسية "تعوّض" خسائرهم.

كما تزيد المخاوف من طبع مصرف لبنان مزيدا من العملة الوطنية، ما من شأنه أن يساهم في انهيار سعر الصرف، ويفاقم الأزمة النقدية المالية، ويضرب ما تبقى من قدرة المواطنين الشرائية.
وفي 2 أغسطس/آب، دقّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي جرس الإنذار، معلناً أنه لا يمكن تأمين الدواء أو الرواتب مع نهاية الشهر الجاري، رامياً المسؤولية في مرمى مجلس النواب لإقرار القوانين المطلوبة لتشريع مسار الاقتراض الذي يطلبه حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري والنواب الثلاثة، وكذلك الإصلاح المالي المطلوب لتحقيق الاستقرار النقدي.
وتنقسم الآراء في مجلس النواب سواء لناحية انعقاد جلسة تشريعية في ظلّ الشغور الرئاسي، باعتبار أن البرلمان يتحوّل إلى هيئة انتخابية مهمتها انتخاب رئيس للجمهورية، أو لناحية رفض نواب إقرار أي قانون لتمويل الدولة عبر المسّ بأموال المودعين.

استيلاء على أموال المودعين
تقول النائبة نجاة عون صليبا، إن تقديم مشروع قانون من مجلس النواب لتمويل الدولة عبر الاستدانة من مصرف لبنان هو استيلاء على أموال المودعين، وتمنع المادة 90 هذه التسليفات وفق أحكام قانون النقد والتسليف اللبناني، معتبرة أنه حان الوقت للحكومة أن تتحمّل مسؤولياتها وأن تقدم حلولاً إصلاحية مالية بدل تحميل المواطن فشلها.

في السياق، يقول وزير الاقتصاد اللبناني السابق، ألان حكيم، لـ"العربي الجديد"، إن "موضوع تمويل رواتب القطاع العام، وتالياً إقراض الحكومة، يظهر كل مدة بهدف إبقاء المواطن اللبناني في إطار الخوف من الغد أي المستقبل، ما يجعل الناس تعيش للأسف في قوقعة من الخوف وعدم الاستقرار".
ويستغرب حكيم كيف أن "إعلانا من هذا النوع يصدر بالإعلام وعلى مسمع آلاف من المواطنين وموظفي القطاع العام الذين يسألون اليوم هل سنقبض رواتبنا آخر الشهر، ويخشون على مصيرهم، هذا أمرٌ مرفوضٌ وغير أخلاقي، وغير مسؤول من قبل الدولة وخصوصاً حكومة تصريف الأعمال، وبمثابة خطيئة كبرى".

ويشدد حكيم على أنه من المرفوض تمويل رواتب القطاع العام من أموال المودعين، سواء حصل ذلك بتشريع أو لا، فالسرقة هي نفسها، ولن يجمّلها أي قانون أو يلبسها رداءً آخر، ويستحسن إقرار الكابيتال كونترول بدل سرقة المواطنين.
ويؤكد وزير الاقتصاد السابق أنه لا يمكن إقراض الدولة اللبنانية من ودائع الناس، والحديث اليوم عن مدخول جمركي كافٍ، ليس صحيحاً، ولا يكفي أساساً، والمطلوب حصول توازن بين الصرف والإيرادات، الأمر غير الموجود، وهو ما يعمّق العجز يومياً، من هنا يجب عدم الاختباء خلف ورقة تين، في حين أن الدولة لديها ما يكفي من الإمكانات الإنتاجية غير المستعملة لتأمين المبالغ اللازمة التي هي بحاجة إليها، منها الجباية، التي لا تشمل كل القطاعات والمؤسسات والمناطق، ويجب أن تغيّر هذه السياسة بالذات، بدل المطالبة بالمسّ بأموال المودعين.

ويرى حكيم أن الوقت ليس لصالح لبنان والانتظار مميت، ولا يمكن رمي المشاكل من دون حلول جذرية، فهذا يقتل الدولة والمواطنين يوميا.

من هذا المنطلق، يجب الوصول إلى حلول عملية للمغالطة الكبرى التي تتمثل بأخذ أموال الناس لتمويل الرواتب، إذ لا دولة تدفع تكاليفها بإطار سحب مال المواطنين والصرف اليومي، وكلنا نتذكر الذي حصل في أموال الدعم التي بلغت 20 مليار دولار وتبخرت دون أي جدوى للمواطن اللبناني، ولا نزال في مكاننا.
من ناحية ثانية، يعتبر حكيم أن هناك مسؤولية اجتماعية واقتصادية على وسيم منصوري أن يأخذها على عاتقه، ويكون حازماً في أخذ قرارات ضمن إطار المصلحة الوطنية الكبرى وليس على الصعيد السياسي البحت أو المصالح الحزبية، من هذا المنطلق يجب الوصول إلى حلول عملية، مع التشديد على ضرورة إقرار قانون كابيتال كونترول.

سياسة مصرف لبنان
في السياق، يفنّد مدير المعهد اللبنانـي لدراسـات السـوق، باتريك مارديني، في حديثه مع "العربي الجديد"، سيئات إقرار القانون، معتبراً أولاً أن إقراض الحكومة من الاحتياطي الإلزامي لمصرف لبنان هو سابقة خطيرة جداً، لأسباب عديدة، إذ أن سبب الأزمة الراهنة التي نعيشها، تعود بالدرجة الأولى إلى سياسة مصرف لبنان المعتمدة بأخذ أموال المودعين وإقراضهم للحكومة على سعر صرف ثابت، في وقتٍ تعجز الحكومة عن ردّ الأموال، الأمر الذي أدى إلى حصول الفجوة المصرفية، وبالتالي حصل جدل كبير حول ما إذا كان يحق للمصرف المركزي إقراض الحكومة وما إذا كانت الخطوة شرعية.

وبكل الأحوال، فإن الطرح اليوم، يعني تشريع هذا النهج، بمعنى قوننة الهدر والسماح باستمرار أخذ أموال المودعين ما يُعمّق الأزمة.
من ناحية ثانية، يعتبر مارديني أن هذا النهج يشجّع الحكومة على عدم القيام بالإصلاحات المطلوبة منها والواجب اتخاذها، في حين عليها أن تقوم بإصلاحات تخفض من خلالها نفقاتها وتحسّن إيراداتها أي جبايتها.
على صعيد ثالث، يقول مارديني إن إقرار القانون سيكون سابقة خطيرة لناحية تحديده بمهلة 6 أشهر، وتضمينه مبلغ مليار و200 مليون دولار، إذ أنه بمجرد تشريع الإقراض مرّة، ستتكرّر هذه الخطوة، وسيُجدّد القانون، امتصاص وإهدار ما تبقى من أموال المودعين والمقدّرة بـ 9 مليارات دولار متبقية في الاحتياطي.

من حيث التفاصيل، يقول مارديني حجة الحكومة تتمثل بضرورة اقتراض الحكومة لتمويل رواتب موظفي القطاع العام والعسكريين، علماً أنها ليست بحاجة للاستدانة للدفع، إذ أن معدل الجباية الشهرية في موازنة 2023، يبلغ حوالي 12 تريليون ليرة، بينما كلفة الموظفين تبلغ 7 تريليونات شهرياً، كما أنه من منتصف السنة متوقع أن تصل إيرادات الدولة بين 15 إلى 20 تريليون ليرة، وهناك تقديرات بوصولها إلى 25 تريليون ليرة، ما يعني قدرة الحكومة على دفع الرواتب والأجور، وهي تمتلك ما يكفي من الجباية للتسديد وحتى ما يفيض عنها، ما يجعل الاستدانة حجة، وستستخدم الأموال لغايات أخرى.
في المقابل، يضيف مارديني "إن تغطية عجز الموازنة على السنة كلّها تتطلب 400 مليون دولار، ما يطرح علامات استفهام حول الرقم المطلوب، أي مليار و200 مليون دولار، لمدة 6 أشهر، ويرفع من شبهات الفساد والهدر والمخاوف من العودة إلى المسار نفسه الذي أوصلنا إلى هذه الأزمة، الذي يتمثل بالهدر والتقاسم والمحاصصة.
ويتابع مارديني، إن الهدف من أي قانون نقد وتسليف في العالم هو حماية المصرف المركزي من تدخلات السلطة السياسية، والحفاظ على استقلاليته، في حين ما يحصل اليوم هو العكس، ويتمثل بطلب حاكم مصرف لبنان تشريع قانون لإقراض الحكومة، وكأنه إعلان من قبله بالتخلي عن الاستقلالية وإخضاع المصرف لاستنسابية السلطة السياسية بطلبه تشريع القانون، ما يضعنا أمام المثل القائل "يأتي بالدب إلى كرمه"، وهذا بحد ذاته منحدر خطير جداً وخارج الإدارة السليمة للمصارف المركزية.

جريمة بحق المواطن
وعلى مقلب الخيارات، يقول مارديني بداية، لا ينبغي على النواب إقرار مثل هذا القانون فهذا جريمة بحق الوطن والمواطن والإصلاحات التي ممكن أن تنتشل البلاد من الأزمة. في المقابل، على الحكومة أن تقوم بالإصلاحات، فهي أمام عجز 34 تريليون ليرة، يمكنها خفضه من خلال وقف مسار الدعم على التهريب، وترشيد نفقاتها، لتحقيق التوازن في الموازنة العامة، وهذا لن يحصل في حال تمرير القانون.
كذلك، يحذر مارديني من أن يقوم مصرف لبنان بإقراض الحكومة بالعملة الوطنية، عند رفضه إقراضها بالدولار، فهذا المسار الذي يقوم على طباعة الليرة أيضاً سيؤخر الإصلاحات ويكبّر الأزمة ويوسع رقعة الانهيارات الكبيرة في سعر صرف الليرة، لنكون مرّة جديدة أمام سيناريو تقاذف الاتهامات والمسؤوليات بين المصرف المركزي والسلطة السياسية بينما الشعب سيدفع هذه الفاتورة.
واعتبر المنتدى الاقتصادي والاجتماعي في بيان سابق أن أي قانون يصدر عن مجلس النواب يجيز الاقتراض من مصرف لبنان هو تعديل لقانون النقد والتسليف، ما يعني الإطاحة بالمبدأ العام المنصوص عليه في قانون النقد والتسليف، وهو ألا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العام.
ويرى المنتدى أنه بمجرد صدور مثل هذا القانون يعني أن المنظومة السياسية نجحت في خرق وكسر القيود القانونية والاقتصادية والنقدية التي من شأنها حفظ استقلال المصرف المركزي وحفظ أموال المصرف من التبديد والنهب، وبالتالي، تستسهل السلطة عندئذ إصدار قوانين أخرى مماثلة.

المساهمون