الكساد يضرب أسواقاً عربية مبكراً

الكساد يضرب أسواقاً عربية مبكراً

30 أكتوبر 2022
تراجع القدرات الشرائية للسودانيين يكبد التجار خسائر فادحة (فرانس برس)
+ الخط -

من السودان إلى ليبيا وسورية واليمن وتونس، ترتسم ملامح كساد في الأسواق بفعل غول الغلاء الذي ينهش جيوب المواطنين ويفقدهم تماماً القدرة على الشراء، ما يجعل حتى من محاولات إنقاذ الأسواق عبر خفض الشراء دون جدوى في بعض الدول مع انهيار الملاءة المالية للكثير من المواطنين.

ولطالما سادت التوقعات بدخول العالم إلى مرحلة من الركود بفعل سياسة رفع أسعار الفائدة من جانب الولايات المتحدة وزيادة هيمنة الدولار، إلا أن العديد من الدول العربية مرشحة لتداعيات أكبر من الركود لتدخل في كساد أشد وطأة لا تقتصر تداعياته فقط على الأنشطة التجارية، بل تمتد إلى القطاعات المصرفية وغيرها.

ويتوقع خبراء اقتصاد دوليون، أن يُبقي مسؤولو بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي ) موقفهم المتشدد حيال مواجهة التضخم في الولايات المتحدة، ما يمهد الطريق أمام رفع أسعار الفائدة لتصل إلى 5% بحلول مارس/آذار 2023، وهي زيادات من المرجح أن تقود الولايات المتحدة والعالم إلى ركود اقتصادي.

وتتخوف البشرية الآن من الوقوع في براثن أزمة فقر وبطالة وجوع وإفلاس وركود أشبه ما يكون بالكساد الكبير الذي ضرب الاقتصاد الأميركي بوحشية أولاً قبل أن تمتد مخالبه سريعاً إلى أوروبا ومعظم دول العالم خلال ثلاثينيات القرن العشرين، لكن هذه الملامح بدت حاضرة بالفعل في الكثير من البلدان العربية لتسبق المشهد العالمي الذي ترتسم ملامحه.

سلع بلا مشترين في السودان

في السودان حيث يتمدد الفقر، يسيطر الركود الحاد على الأسواق، لدرجة أن أسواق الكثير من السلع لا تجد زبائن، رغم ثبات الأسعار أخيراً واضطرار بعض التجار إلى خفضها للحيلولة دون انهيار تجارتهم الذي بات وشيكاً، وفق تجار تحدثوا إلى "العربي الجديد"، ما يدفع بكرة الثلج نحو البنوك والشركات الموردة.

ورصدت "العربي الجديد" استمرار إغلاق بعض المحال التجارية في وسط الخرطوم، وأكد تجار أن كثيراً منهم أغلقوا محالهم نتيجة للخسائر التي ظلوا يتكبدونها في ظل الركود الحاد والفواتير الباهظة التي يدفعونها للإيجارات والرسوم الحكومية.

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

في وسط العاصمة الخرطوم شهدت المحلات التجارية في السوق العربي تراجعاً ملحوظاً في القوة الشرائية.

يقول الأمين العام السابق للغرفة التجارية في الخرطوم، الطيب طلب، إن القطاع التجاري يعاني من ركود عميق بفعل انحسار القدرات الشرائية للمواطنين وندرة السيولة المالية في أيدي التجار ومن السياسات الاقتصادية الراهنة بالبلاد التي أجبرت التجار على كسر أسعار السلع بالأسواق، مضيفاً أن العديد من التجار هجروا البلاد لتأثرهم بالوضع الاقتصادي وتآكل رؤوس أموالهم بسبب الغلاء والركود.

وأشار طلب لـ"العربي الجديد" إلى أنه رغم وفرة السلع في الأسواق، إلا أن الكساد أجبر الكثير من التجار على حرق أسعار السلع الاستهلاكية، والبعض اضطر إلى ترك النشاط، لافتاً إلى أن استمرار عزوف المستهلك عن الشراء انعكس على تراجع أرباح التجار وحجم المبيعات، ما أدى إلى تعثرهم في سداد مديونياتهم، كذلك إن استمرار الوضع الحالي بالأسواق سيؤدي إلى إيقاف الاستيراد والاكتفاء بالسلع الموجودة، وقد ينذر الوضع بحدوث ندرة في بعض الأصناف.

وفي السوق العربي بوسط العاصمة الخرطوم، يتوقع التاجر محمد سليمان لـ"العربي الجديد" انهيار المنظومة التجارية خلال شهور مقبلة بسبب استمرار الركود وارتفاع الرسوم الحكومية على التجار، منتقداً سياسة الحكومة بتحرير الأسعار وإيقاف الدعم، الأمر الذى أثر سلباً بمختلف القطاعات.

بدوره، يقول إسماعيل حسين، أحد التجار في سوق ليبيا، أشهر الأسواق المركزية في أم درمان، إن ركوداً كبيراً بدأ يضرب الأسواق، وهذا يعني أننا مقبلون على تكبد خسائر أكبر حال جلب البضائع بالأسعار الجديدة، مضيفاً: "لن نغامر مجدداً في عمليات استيراد جديدة حتى نأمن جانب الخسائر مجدداً".

وفي الأثناء طالب نادر الهلالي، رئيس اتحاد الغرف التجارية، الحكومة بإجراء مراجعة فورية للسياسات الاقتصادية وإلغاء زيادة ضرائب أرباح الأعمال، مشيراً إلى أن هذه السياسات ساهمت في انعدام القوة الشرائية التي انعكست بدورها على عجلة الاقتصاد، ما قلل من الناتج المحلى الإجمالي وإيرادات الدولة.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

في الأثناء، تزايدت ظاهرة "كسر" البضائع والسلع الرئيسية، أي بيعها وشرائها بأسعار غير حقيقية من أجل الحصول على عملات أجنبية أو الحصول على أرباح سريعة. إذ يعمد بعض التجار الذين يمتلكون سيولة ضخمة خارج المظلة المصرفية والضريبية إلى شراء سلع بأسعار أعلى بكثير من قيمتها الحقيقية وتصديرها، للاحتفاظ بعائداتها من العملات الصعبة في حسابات خارجية، خوفاً من حالة الضبابية الاقتصادية الحالية في البلاد، فيما يلجأ آخرون لتسييل بضائع وسلع حصلوا عليها من طريق المرابحات المصرفية المشروطة بسلع محددة أو من طريق الشيكات الآجلة.

وأرجع اقتصاديون بروز هذه الظاهرة لدى التجار إلى الركود والتشوهات الاقتصادية، ما أثر سلباً في الأسواق بصورة عامة. وقال الخبير الاقتصادي محمد زين لـ"العربي الجديد" إن بيع الكسر يؤثر مباشرة في المنتجين ويقلل من العملية الإنتاجية.

كساد بلا حلول في سورية

وفي سورية تبدو الأزمة أعمق وأكثر تعقيداً، إذ يؤكد اقتصاديون وجود عوامل "الكساد الأكبر"، متوقعين إفلاسات مقبلة واستمرار هروب رؤوس الأموال الخاصة، بعد انسداد أي أفق أو تدخل حكومي، يعيد للاقتصاد دورته وللأسعار عدالتها وللسوريين قدرتهم الشرائية لما يبقيهم على قيد الحياة.

ويقول الخبير الاقتصادي السوري، عماد الدين المصبح إن "السوق السورية تعاني من ركود تضخمي وخانق منذ سنوات، فنسبة التضخم رسمياً بلغت العام الماضي 110%، وأظن أنها أضعاف ذلك حالياً بناءً على مراقبتنا لغلاء الأسعار وتهاوي الليرة".

يشير مصبح إلى أن هذا الركود يرجع إلى قلة الدخل وغلاء الأسعار، ففيما يزيد الإنفاق الشهري للأسرة السورية وفق مراكز أبجاث اقتصادية في دمشق على 2.5 مليون ليرة، لا يزيد الدخل لمن لديه عمل ثابت على 100 ألف ليرة، ولعل تضخم الأسعار بعد تراجع سعر صرف الليرة إلى أكثر من 5100 ليرة للدولار الواحد، زاد من تراجع القدرة الشرائية للسوريين الذين ينصب اهتمام معظمهم على أهم ضرورات المعيشة والبقاء على قيد الحياة.

وفيما لا يتوقع المصبح انفراجات سياسية بالنسبة إلى سورية في الأفق المنظور، فإنه يرى أن إغلاق المنشآت الاقتصادية سيزداد لأن تكاليف الإنتاج، وأهمها الطاقة، حولت معظم المنشآت إلى خاسرة، بعد صعوبة تصريف الإنتاج داخلياً وصعوبة التصدير لأسباب تضييقية من النظام ولا يُستبعد هجرة من بقي من المستثمرين ورجال الأعمال أو إعلان الإفلاس إن لم يستطيعوا الهرب من سورية.

ويلف الركود معظم قطاعات الاقتصاد السوري، وفق المحلل الاقتصادي علي الشامي، مشيراً إلى أن موجودات المصارف الحكومية تراجعت بشكل هائل حالياً لتبلغ نحو 2400 مليار ليرة، لأن التضخم النقدي أضعاف سعر الفائدة، الأمر الذي أثر بمنح القروض أو دخول المصارف في استثمارات ومشروعات تنافسية تحرك الأسواق.

ولا يرى المحلل السوري من دمشق أية حلول لحالة "الركود الهائل" وبداية تفشي الكساد في سورية، إلا بعد الحلول السياسية التي تعيد الثقة للرساميل المحلية والمستثمرين الخارجيين، ولكن يستدرك بأن أزمة التضخم والركود العالمي، بعد غلاء الأسعار وتهاوي سعر العملات، تبعد أي أمل وتزيد من تسريع الكساد وربما الإغلاق والإفلاسات.

تخفيضات في ليبيا لجلب الزبائن

وفي ليبيا شهدت أسعار السلع الكمالية تخفيضات كبيرة، خاصة المواد المنزلية والمفروشات والسلع الكهربائية في الأسواق، في محاولة من جانب التجار لاستقطاب المشترين والخروج من دائرة الركود التي تتعمق يوماً تلو الآخر، وفق تجار تحدثوا لـ"العربي الجديد" خلال جولة في العديد من أسواق العاصمة طرابلس.

يقول خبير التسويق طارق زايد إنه "عادة ما يكون التواطؤ السعري في سلعة واحدة، أما أن يحدث في سلع متعددة، فهذا يحتاج لتفسير وتحليل واسع حتى نصل إلى الهدف من هذا التخفيض في الأسعار".

ويعاني الليبيون من أوضاع اقتصادية صعبة. وفي مطلع يوليو/تموز الماضي، اندلعت تظاهرات احتجاجاً على الظروف المعيشية والفوضى السياسية وأزمة انقطاع التيار الكهربائي في البلاد.

تجار تونس يلوذون بالمواسم

في تونس تكافح الأسواق لإبعاد شبح الكساد، حيث يستفيد التجار من مواسم الاستهلاك الكبرى التي تحرك الطلب على السلع في تلك الفترات، إلا أن القلق يتزايد مما هو قادم بفعل الركود العالمي.

ويغير الغلاء وتراجع الدخول السلوك الاستهلاكي للتونسيين، حيث تكتفي الأسر بالنفقات الأساسية التي تموّل من مداخيلهم الشهرية والرواتب، بينما تجابه النفقات الطائرة أو الكمالية بالقروض المصرفية أو أشكال أخرى من الاستدانة.

يقول عماد المنصوري، وهو تاجر مواد تموينية غذائية بالجملة، إن السوق قلقة، وهو ما يعكس الوضع النفسي والمالي للتونسيين، مؤكداً أن الحركة التجارية يسيطر عليها التباطؤ. ويضيف عماد لـ"العربي الجديد" أن طبقات واسعة من المواطنين فقدوا جزءاً مهماً من قدرتهم الإنفاقية، ولا سيما الموظفون. ويؤكد أن التجار يلجأون إلى كل الطرق التي تكسر الركود، ومنها تسهيلات البيع عبر التقسيط أو الدفع المؤجل، غير أن ذلك لا يحجب الأزمة، بحسب قوله.

ويشير إلى أن التونسيين بصدد فقدان ثقافتهم الاستهلاكية القائمة على الوفرة والتحوّل نحو نماذج إنفاقية متقشفة، مرجحاً أن يستمر الوضع على ما هو عليه، أو أن يتعكر مع بدء تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي والمرور إلى مرحلة رفع الدعم.

وخلال السنوات العشر الماضية، عاش التونسيون أزمات اقتصادية واجتماعية متنوعة، بسبب عدم الاستقرار السياسي، إلى جانب تراجع النمو الاقتصادي، قبل أن تُلحق الجائحة الصحية نحو مليون تونسي بدائرة الفقر.