وليد هرمز.. الهرب من عشبة كلكامش

وليد هرمز.. الهرب من عشبة كلكامش

23 مارس 2017
(وليد هرمز)
+ الخط -

ليست مدينة سمرقند التي يقف أمامها الشاعرُ العراقي وليد هرمز (1951) في مجموعته الشعرية الأخيرة "جسدان في وضوح أخضر" (2015) هي التي لا تشبه الليلَ ولا النسيانَ فقط، بل وجملة أسماء تتناثر في مجموعاته الشعرية الشبيهة بجداريات، تكاد تتجمع الأسماء فيها مرة، وتتفرّق مرّات.

وبين هذا وذاك تظلّ سطوره أشبه بأشغال قطع الفسيفساء الملوّنة. قطعة من هنا وقطعة من هناك، من ماضٍ وحاضر، ومن شرق وغرب؛ وفي الوسط من هذا، مغنٍ جوال يماثل هوميروس تارة ويذكّر بسياب البصرة تارة أخرى، منفيٌّ في كل الأزمان. منفي عن الأكدي وابنته، ومنفي عن عراق اليوم وظلاله وأنهاره، ذاهب إلى الغرب في وحشة الطرقات، يلجأ إلى السويد في تسعينيات القرن الماضي، حيث يفضي سحب مقبض الباب إلى مغيب الكائنات، وحيث لن تطلع للسومريّ وهو يحفر في سماء اسكندنافيا الكابية شمسٌ وإن طال النهار.

سمرقند، هذه المدينة التي يقتطع منها كلمة "قند"، أي سكر، بلغات وسط آسيا، ويذيبها في "استكانة" من شاي البصرة، على بعد المسافة وتعدد اللهجات والوجوه، ليست سوى اسم مكان بين مئات الأمكنة والأسماء الزاخرة بدلالات النفي والحنين والضياع، وكل ما يذكّر بالوطن. إلا أن مدينة واحدة تظلّ تترى وتتراءى ملامحها بين سطر وآخر، وتظلّل بنخيلها وشطّها وشناشيلها ذاكرته الشعرية، تلك هي "البصرة" الجنوبية مكان الميلاد في حضرة الغياب الغامر؛ غياب عراق الماضي وعراق اليوم.

الشعراء هم من يبقون، لا الساسة ولا الزعماء ولا أصحاب شرائع العقوبات التي لاتعرف الرحمة. ما يبقى هو السياب والشاعر الشعبي أبو سرحان، والروماني أوفيد والأرجنتيني بورخيس واليونانية سافو والبغدادي الحلاج.. وحتى حين يُذكر سرجون الأكدي، والمعني "السري كن" صاحب أول إمبراطورية في أرض الرافدين، ترافقه ذكرى ابنته الشاعرة "أنخيدوانا" (اسمها الأصح حسب ترجمة هارييت كروفورد بالحرف اللاتيني Enheduanna الأقرب إلى "أناهيد" العربية).

هذه الفسيفساء، بأشكالها المتنوّعة، تتجمع وتتشكّل كأنما مصادفة، إلا أن متابعة الجدارية، والشاعر يُطلق هذه التسمية على إحدى مجموعاته المسماة "فرّان الندم" (2012)، وتوّزعها على مجموعاته الأخرى؛ وعناوينها "نواقيس الكلدان" (2007)، و"سالميتي" (2009)، و"جسدان في وضوح أخضر" (2015)، يحوّلها إلى مشروع شعري يتسع بقدر ما يدرك ويستدرك من مشاهد ويلمّ من سماوات.

طموح هذه الشعرية أن تخترق منفى الماضي والحاضر إلى وطن محلوم به لا حدود له:
"أنا الأعمى
دليلي سراب الفوانيس
سراب يغسل جسد "سافو" المعتق بعقار الحانات
- من أين أنتَ؟
- من أور السومريين
- أتحمل عشبة "كلكامش"؟
- هارب ٌ أنا منها".

هذا اللاتحديد، أو الهرب من التحديد، يُوقع من يودُّ وضع عنوان لموضوعة هذا الشعر في حيرة، فهل سيكون العنوان فرّان الفسيفساء؟ أم مدائح الغياب؟ أم أدراج البياض؟ أم ترانيم أكدية؟ أم الزيتون نذير المنسيين؟ كلّ هذا وأكثر منه يمكن أن يكون موضوعة وموضوعات، إلا أنه لن يُفسّر شيئاً، ولن يكون خيطاً هادياً لقارئ أو ناقد.

هو مدوّنة شعرية يتجاوز فيها الكلام وظيفة "القول" إلى وظيفة "الصمت"، والمعني صمت الصورة بتلاوينها وخطوطها ومساحاتها. كل ما لدينا، أو أغلب ما لدينا هنا، صور، وإن تطرفت أحياناً وتحوّلت إلى غيوم بلا قوام، كما في هذا السرد:
"وأنتَ تعرف قبل غيرك أن الوسوسة تتناسل من معطف الرياء فتتساقط متهالكة كعمياء تتسوّل من أطفال الحارات الفقيرة نتف خبزها خبأوها في جيوبهم المتشققّة. بينهم وبينها مشافهة من دمع الكبرياء. قد يموت الوسواس بغيظ رخصه، وتتلو نتف الخبز مديح العماء...".

بدل هذا الخلط بين مجرد وملموس يُشعر بالتصنّع لا بحرية الشعري ومصادفاته، تظلّ الصور، على رغم إغراء هذا النهج الواهم بكونه إنشاداً، أكثر تحديداً، وبالتالي أكثر قدرة على أنسنة الأشياء:
"طرقاتٌ غريبة
على الباب
لا عين سحرية له
شقّ فيه يشبه
فرضة بندقية
ومقبض حديدي
سحبه
يفضي إلى مغيب
الكائنات".

وأخيراً، تظلّ قدرة الشاعر على صياغة تراكيب لغوية متناسقة صوتاً ومعنى، موزعة بحساسية ألسنية متفوقّة، ذات أهمية جديرة بالإشادة، في أوقات وأمكنة قلّ فيها الاحتفاء بالجملة الشعرية بوصفها توزيعاً ماهراً للأصوات والصور قبل أن تكون مجرد حشد للمعاني والمفارقات.

دلالات

المساهمون