في تحرّر الفن

في تحرّر الفن

03 ديسمبر 2014
نذير تنبولي / مصر
+ الخط -

في زمننا هذا ليس ثمّة أدب أو فنّ خارج الحريّة بشكلها المطلق. قد يُظنّ أن الحديث عن الإطلاقيات في عالم النسبيّات هو ضربٌ من الحكم الدوغمائي السخيف؛ لكن النسبيّة، واللايقين، والتواريخ والأكوان المُتعددة، والطبيعة المزدوجة الجزيئية والموجيّة للكون وموجوداته، وهي كلها مقولات الفيزياء المعاصرة، تؤكّد الطبيعة الإطلاقية للحريّة بالمعنيين الفيزيائي والمجازي؛ فإن كانت الحريّة متحقّقة في العالم الماديّ، فالأجدر إذاً أن تتحقّق أيضاً في عالم الفنّ والأدب.

والحريّة التي نقصدها بمعنيين: الأوّل بمعنى الممارسة، أي أن تُمارس الكتابة أو يُمارس الفنّ بتحرّر كامل من الرّقابات والإغراءات، بل أن يكون الفن نفسه مواجهةً لها، وهنا نتحدّث عن مواجهة السلطة والسوق والأيديولوجيّات والعصبويات المختلفة. والثاني بمعنى التمثّل: أي أن يقوم الأدب والفنّ على، وأن يقدّم، فلسفة ورؤية للعالم والوجود بصفتهما مجالين لممارسة الحريّة.

عندما نتحدّث عن الحريّة، فنحن- بالضرورة- نتحدّث عن التحرّر، أي الصيرورة المؤدّية إليها، والتي تتضمّن انعتاقاً من الظلم وانعدام العدالة والمساواة ومن أشكال السذاجة والتسطيح في الموضوع والشّكل. ففي عالم يضجّ بأشكال الشناعات الواقعة على الإنسان والطبيعة معاً، تصبح الرومانسية الفيكتوريّة أو التفاؤلية ضرباً من التضليل، وتصير الكليشيهات التي "يطلبها الجمهور" نوعاً من خيانة الفنّ والحريّة كرؤية وفلسفة وتطلّع.

حين نتحدّث عن الفن وعوالم المضطهدين، يصير الحديث هنا عن الفن كشكل تنويريّ، والتنوير- على ما أزعم- يقع على نقيضٍ من الميكانيكيّة، وعلى نقيضٍ من جرعات النشوة الجماعيّة والخدر المصاحب لأوهام العظمة المتخيّلة أو المفبركة أو المستلّة من "الماضي المجيد".

الفن كشكل تنويريّ هو خلخلة للمستقرّ، وفكفكة للدوغما وأشكال الدعاية التي تدّعي لنفسها شرعيّة الحقيقة المطلقة. الفن كشكلٍ تنويريّ هو تحريضٌ على السؤال والنقد، وفتحٌ لمساحات التخييل. الفن كشكلٍ تنويريّ هو استبطان الحريّة في العمل الأدبي/ الفنيّ وبثّها إلى المتلقي/ الشريك ليتمكن من التخيّل/ التحرّر لا التلقين/ الخضوع. حريّة الفنّ هي حريّة المتلقّي أيضاً، تمكينه منها، من تجربتها؛ لا حريّة الفنان فقط.

في عالمنا الذي قفز إلى الهاوية بعد أن كان يقف متقلقلاً على حافّتها، تتحقّق حريّة الفن خارج دوائر السلعة وكتابة الوجبات السريعة، خارج التطهّرية وبعيداً عن فرسان الأحصنة البيضاء، وبعيداً عن إملائية "الواقعية الاشتراكية" أو مركزيّة "الدولة المهيمنة" أو متطلّبات "الهوية" المفبركة أو مافياويّة "الحزب القائد".

اليوم، تتحقّق حريّة الفن في المواجهة؛ في اجتراح الإبداع خارج القطيع والسلعة والسلطة؛ وهي كلّها أمور نسيناها في خضمّ قوائم "البيست سيلر" ومتطلّبات المقتنين والغاليريات التجاريّة وهيمنة الحكومات.

* كاتب من الأردن 

المساهمون