يوميات في البيت الجرماني

يوميات في البيت الجرماني

07 سبتمبر 2023
جمال تولو/ تركيا
+ الخط -

أسكن في شقةٍ صغيرةٍ تطلُّ حصرًا على الأشجار، وهذه الأشجار بدورها تتّصل بالغابة المقابلة لمنزلنا. والغابة هي غابة جرمانية كلاسيكية، حيث الأشجار الكثيفة والبحيرات اليانعة والأنهر المتدفّقة.
 
حسنًا، تقع هذه الشقة الصغيرة في حيٍّ جرماني يدعى مارتن لوثر، وهو شارعٌ طويلٌ يتّصل بخطٍ نحيلٍ من الأشجار قبل أن يتصل بالغابة المكتظة، حيث تبدأ الأشجار بالنمو هنا تدريجيًا حتّى تصل الغابة. 

كان قد أخبرني فلوريان - زميلي في السكن - أنَّ هذه الأشجار تبقى خضراء طيلة أيام السنة. لا تذبل ولا تصفرّ، بل تكسوها الثلوج فقط، وأنَّ هذا المكان سيصبح حزينًا إن اختفت هذه الأشجار من الغابات. ومن طبع الجرمانيين التمسّك بهذه الغابات الخلابة كونهم لا يملكون البحار. 

وبما أنَّ فلوريان ذكر شيئًا عن الأشجار، لا بدَّ من أن أستحضر الكرمل الفسيح وحيفا، مدينتي الصغيرة المحتلة البائسة التي ترافقني أينما ذهبت، حيث يكون فيها شكل الأشجار مائلًا وآيلًا للسقوط. أشجارٌ تكاد أن تنهار. أشجار شبه خضراء ومائلة. أشجار تفوح منها التباريح، أشجارٌ تتلذّذ بالتنكّر. أشجارٌ مخادعة، تسقط بسهولة مع قدوم أوّل عاصفة.


■ ■ ■

انتقلت إلى هذه الشقة حديثاً، لا أعرف أحدًا هنا، وكنتُ قد تعرّفت على زملائي في السكن بالتدريج. فلوريان، شابٌّ ألمانيٌّ أشقر. رياضيٌّ ويدرس علم الحاسوب في "جامعة سار لاند". يمقت ألمانيا في بعض المواضع، خصوصًا في ما يخصّ نظرة الألمان الاستعلائية. يحاول أن يقرأ "مائة عام من العزلة" لـ غارسيا ماركيز، لكنّه يشعر بالدوار من كثرة تفاصيلها.  

فيلكس من أصول فرنسيّة. يهوى موسيقى الروك ويعزف على آلات موسيقية عدّة. لا يعرف مارسيل بروست، ولم يقرأ "مدام بوفاري"، أي أنه لا يفقه شيئًا في الأدب الفرنسي. لكنّه ذو طباع هادئة. شخصيّته محنّكة وذكيّة، وسرعان ما أهداني عضوية مجانية أستطيع أن أرتاد بها النادي الرياضي. 

أشجار تبقى خضراء، لا تذبل ولا تصفرّ، بل تكسوها الثلوج فقط

بنيامين، ألماني من أصول تركية، يتحدّث التركية مثل الأطفال. لا يلفظُ الحروف الصوتية كما يجب. ولا يعرف أن يصرّف الأفعال أثناء تحدّثه التركية. كان قد درس القليل من اللغة العربية في القاهرة لمدة ثلاثة أشهر. يحبُّ اللغة العربية ويطمح إلى قراءة القرآن الكريم. وبالطبع لم يقرأ أوغوز آتاي ولا يعرف أيّاً من أشعار ناظم حكمت. 

دار حديث بينا حول مفهوم الثقافة عمومًا والفروقات بينها. وكان قد أخبرني بنيامين أن جرمانيا، التي كانت يجب أن تكون عاصمة العالم، كما قال هتلر، فيها أشياءٌ مهزوزة أيضًا مثلها مثل باقي دول العالم. ومهما حاول الألمان إظهار التسامح والشفقة تجاه اليهود، إلّا أنَّ الجيل الجديد ليس حذِرًا بقدر الأسلاف. أي أن كارهي اليهود لا يزالون في المرصاد. وازدواجية المعايير تزداد يومًا بعد يوم. بينما قال فليكس شيئًا عن احتلال فرنسا للجزائر، حيث أقرّ بأن هناك بعض الفرنسيين الذين يظنّون أنَّ فرنسا حرّرت الجزائر من التخلّف، وأنّها جاءت بازدهار لا مثيل له في لبنان. وزدْ على ذلك، نابليون بالطبع الذي جاء بـ"التحضّر الأوروبي" إلى مصر والشرق. 

قال بنيامين أو محمد أمين، إن صحَّ القول، كونه يملك اسمًا مركّبًا من ثلاثةِ أسماء، أنّه موالٍ لرئاسة الجمهورية التركية الحالية، وإنَّ رجب الطيب أردوغان هو زعيم إسلامي من طراز رفيع، وإن الجمهورية التركية دونه ستنهار وتكون سلعة رخيصة للأوروبيين في حال زوال رئاسته، وإن انهيار الوضع الاقتصادي هو وضعٌ مؤقّتٌ لا أكثر. 

- لكنك لا تعرف تركيا، فأنتَ لم تعشْ فيها، لا تعرف شوارعها، لا تعرف كيف تتحرّك المدينة من تحتك، لا تعرف سوادها المطلق، بياضها الكثيف الحاد، لا تعرف زوبعتها. أنتَ ببساطة لا تعرفها. أنتَ لا تجيد التركية حتى! أنتَ تعرفها من الخارج فقط! فأنت الذي قضى معظم أيام حياته في جرمانيا، عاصمة العالم، أليس كذلك؟
- أنا أعرف عنها الكثير، لأنَّ والدتي أخبرتني بكلِّ ما حصل لها، من أرطغرل مرورًا بأتاتورك حتى الطيّب أردوغان. 
- لكنك لم تعش فيها! لم تشعر بوجودها! لا تعرف معنى أن تكون هناك..
- لكن أمي وعائلتي عاشوا فيها... و 
- لكنهم خرجوا منها نحو فرانكفورت 
- من أجل...
- من أجل ماذا؟ من أجل أن يعيشوا بكرامة بالطبع! هذا هراء، أنت لا تعرف...
- وما هي الكرامة إذن؟ 
- الكرامة أن لا يحصل كل هذا.
- يحصل ماذا؟


■ ■ ■

مجدّدًا، أسكن في شقةٍ صغيرةٍ تطلُّ حصرًا على الأشجار، وهذه الأشجار بدورها تتصل بالغابة المقابلة لمنزلنا. الغابة هي غابة جرمانية كلاسيكية، حيث الأشجار الكثيفة والبحيرات اليانعة والأنهر المتدفقة. لا أعلم ماذا ينتظرني هنا، في هذا البيت الجرماني الحقير. وسرعان ما أسمع أصواتًا، عاشت جرمانيا! يقول بنيامين، وكأنه آتٍ من زمنٍ غابرٍ مقهور، عاشت عاصمة العالم، عاشت فرنسا يقول فيلكس، عاش هذا الحضيض، عاش الاحتلال، عاش هذا العالم المختل.

* كاتب من فلسطين

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون