من الذي نقرأه في الترجمة؟

من الذي نقرأه في الترجمة؟

17 ابريل 2023
أصدقاء الطيور لـ آليكوس فاسيانوس
+ الخط -

عرَض علينا المُحاضر في "كلّية الدراسات الشرقية والأفريقية" بجامعة لندن ترجمتَين مختلفتين لقصّة قصيرة من تأليف هاروكي موراكامي؛ إحداهما بتوقيع مُترجمِ هاروكي ذائع الصيت غاي روبِن، والأُخرى بترجمة مجلّة "ذي نيويوركر" الأميركية، وطلب إلينا النظر والنقاش فيهما.

كانت الآراء متفاوتةً بين الباحثين من ناطقي اليابانية ومُترجميها، وأحياناً كانوا على النقيض في تفضيل إحدى الترجمتَين على الأُخرى، فيما كنتُ، ناطق العربية بين الحضور، أتساءل في نفسي عن الذي نقرأه في ترجمات هاروكي موراكامي، ولا سيما أن ما يُنقَل إلى العربية من أدبه، يُنقل من خلال لغة وسيطة هي الإنكليزية في أغلب الأحيان. وقد لا يكون هذا السؤال مستجدّاً، فهو سؤال مُزمِنٌ لازَم الترجمة وفروعها من دراسات حقليةٍ وبينية: من الذي نقرأه في النصّ المُترجَم؟

وُضع هذا التساؤل القديم المستجد في صِيغ أكثر منهجيةً في إطار ما عُرف بالمنعطف الثقافي في دراسات الترجمة، وما ترافق مع هذا المنعطف من تحوُّلات نحَتْ نحو مقاربة الترجمة في حقل دراسة بينيّ ضمّ الدراسات الثقافية والمعرفية، ودراسات ما بعد الكولونيالية، ودراسات الأدب المقارن، بعد أن غلَبَت المقاربة اللغوية على دراسات الترجمة.

ومن بين أبرز روّاد "المنعطف" أندريه لوفيفر وسوزان باسنيت، ولاحقاً لورنس فينوتي الذي تُنسَب إليه إحدى أبرز النظريات في دراسات الترجمة في حقبة ما بعد "المنعطف الثقافي"، وهي نظرية "التغريب والتقريب" التي ضمّنها في كتابه المترجَم إلى العربية بعنوان "اختفاء المترجم" -وإن كنتُ شخصيّاً أميَل إلى إبدال كلمة "اختفاء" في العنوان العربي بكلمة "احتجاب"، وهذا مبحثٌ آخر قد لا يتّسع المقام للإسهاب فيه هنا.

سؤال مزمن لازم الترجمة وفروعها من دراسات حقلية وبينية

ولئن كانَ فينوتي أوّلَ من أطّرَ هذه النظرية وضمّنها في كتاب، فإنّ السجال بشأن المقاربَتين قديمٌ قِدَمَ أُولى الترجمات الرسمية للعهد القديم التي حمَلت توقيع القدّيس جيروم؛ إذ يذكر التاريخ جيروم بكونه مترجماً متمرّداً على العُرف الذي احتكم إليه منتقدوه ممّن اتهموه بـ"الانحراف عن النصّ الأصلي وتحريفه"، ويلاحظ المطَّلِع على رسائل جيروم وأطروحاته بشأن الترجمة الحرفية، ولا سيما مع ما أدرجه من شروحات في حواشي ترجماته، قوله إنّه يُنصّب نفسه "محرّراً" في الترجمة، فيقابل المعنى بمعنىً، وليس الكلمة بالكلمة، لِئلّا تبدو النتيجة غير مألوفة للقارئ على حدّ تعبيره.

ولا نبالغ إذا قُلنا إنّ مسألة "الألفة" هذه ما فتِئت تطرح معضلةً لا يزال المترجمون ودارسو الترجمة ونقّادها يواجهونها بعد أكثر من 1500 عام، وتتمثّل من خلال مقاربات تحكمها الثنائيات من قبيل الخيانة/ الأمانة، والحَرفية/ التحرّر، والتغريب/ التقريب، وإن كان راهِنُ الدراسات الأكاديمية قد غدا أكثر انفتاحاً على التأمّلات التي تميل إلى إدراك المسألة في فضاءٍ ثالثٍ هجين.

قبل فترةٍ، نشرت صحيفة "ذي نيويورك تايمز" مقالةً زعَمَ كاتبها، ريان بلوم، من دون أن تعوزه الحجّة، أنّ معظم الترجمات الإنكليزية لأوّل سطرٍ في رواية "الغريب" للكاتب الفرنسي ألبير كامو لم تكن بالدقّة الكافية للإحاطة بما أراد كامو قوله على لسان شخصيته. وإذا ما حاولنا إيجاز ما يطرحه بلوم في المقال، ربما أمكن القول نقلاً عنه إنّ الترجمة الإنكليزية لأوّل جُملةٍ فرنسية في الرواية، وهي جملةُ "Aujourd'hui, maman est morte" جاءت في معظم النُّسَخِ الإنكليزية على النحو التالي: "Today, mother died" ويقابلها في العربية (نقلاً عن ترجمة عايدة مطرجي إدريس وطبعة "دار الآداب") "اليوم، ماتَت أمي".

بالنسبة إلى من يُلمّ بأساسيات هذه اللغات الثلاث، أو حتّى بأساسيات اثنتين منهما على الأقل، لا مشكلة بائنة في أيّ من هذه الترجمات. غير أنّ بلوم يدلف عميقاً في تحليله الدقيق، مُشيراً إلى أنّ لاستخدام كامو كلمةَ "maman" الفرنسية بدلاً من كلمة "mère" ما يُفسّره من ناحية، وما أخفقَت الترجمات في التقاطه من ناحية أُخرى. فالأولى بحسب بلوم، تنطوي على محمولٍ عاطفي أكبر ممّا تُجسّده الثانية، وبالتالي فإنه يقترح أن تُتَرجَم "maman" الفرنسية إلى "mum" الإنكليزية.

وإذا ما اتّبعنا هذه المقاربة في الترجمة العربية، ربما تعيّن على المترجم العربي اختيار كلمة "ماما" مقابلاً أنسبَ للكلمتين الفرنسية والإنكليزية على السواء. تجدُر الإشارة هنا إلى أنّ بلوم لا يكتفي بتعليل رأيه هذا بما تنطوي عليه المفردتان من مدلولات عاطفية تخصّ علاقة الابن بالأم، بل يسردُ ما يرى فيه حججاً من سياق الرواية بشخوصها الأبرز وبسيرة مؤلّفها تتناول حتى البنية النحوية للجملة محلّ النقاش، مبيّنةً لمَ ابتدأ الجملة بكلمة "اليوم" بدلاً من فعل "ماتت" أو الفاعل "ماما"!

وإذا كان في ما يذهب إليه بلوم تعزيزاً للرأي الذي يرى في الترجمة عملاً غير ناجز، فإنّه يلقي الضوء من جديد على دقائق ما تنطوي عليه الترجمة من إشكالاتٍ تُعزى في المقام الأول إلى الطبيعة الغامضة أصلاً للّغة البشرية الواحدة، فما بالك حين يتعلّق الأمر بحوارٍ (تسمّيه دراسات الترجمة مفاوضات) بين لُغَتين وثقافتين قد تكون بينها عوالم من الفروقات.

ثمّة من يرى في النصّ المترجَم أصلاً يُعتدّ به في حدّ ذاته

وليس من الغريب أن يقع المعني بدراسات الترجمة على آراء ترى في الترجمة فِعلاً مستحيلاً، وأنّ إعادة إحياء النص الأصل في لغةٍ أُخرى مستحيلة من دون وقوع خسائر. إلّا أنّ هناك مَن لا يكترث بتنظيراتٍ كهذه، كبورخيس مثلاً، ويرى في النصّ المترجَم أصلاً يُعتدّ به في حدّ ذاته، ومَن يرى في الترجمة عمليةً يتغيّر فيها كلّ شيء لكي يبقى كلّ شيء على حاله، وهذا رأيٌ منقولٌ عن الكاتب الألماني غونتر غراس. 

خِلافاً لما تُحبّذُه "سُلطات النشر"، والمفاهيم الراسخة من قبيل "السلاسة" و"المقروئية"، وما إلى ذلك من معايير ثقافية تحكم جودة الترجمة؛ أرادَ فينوتي ظهور دور المترجم، من خِلال إظهار العناصر الأجنبية في الترجمة، ورفض الانصياع لمقتضيات الثقافة المنقول إليها، أي من خلال ما يُعرَف اصطلاحاً بتقنية التغريب. على أنّ فينوتي يضع هذا المطلب في سياق الترجمة إلى اللغات/ الثقافات المُهيمِنة كالإنكليزية والفرنسية.

وقبلَ ذلك بعهد بعيد، أرادَ والتر بنيامين من المترجم أن يدَع عنه النصّ الأجنبي بعد إدراك فحواه ليكتب ما يراه نصّاً أنسبَ في اللغة والثقافة المنقول إليهما. وهنا يلوح السؤالُ الأزليّ: من الذي نقرأه في الترجمة، الكاتب أم المترجِم؟

ثمّة سؤال آخر لا ينفصم عن هذا السجال، لماذا نقرأ الترجمات، للمتعة أم بحثاً عن المعنى؟ وأيّ معنى؟ ولعلّ ما يزيد من المفارقة استغلاقُ هذين السؤالين على الإجابات القطعية، ولا غرابة في أن تختلف الإجابات باختلاف السائلين والمجيبين وأغراضهم.


*مترجم وكاتب سوري

المساهمون