مفكرة المترجم: مع إبراهيم إستنبولي

مفكرة المترجم: مع إبراهيم إستنبولي

16 يناير 2021
(إبراهيم إستنبولي)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "المترجم العربي متروك لرغبات وأهواء الناشر. وليس سرًّا أنّ بعض الناشرين يمارسون عملهم كتجّار ولا علاقة لهم بالأدب وبالبحث الفكري"، يقول المترجم السوري.


■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟ 

- حكايتي مع الترجمة قديمة من ناحية، إذ تعود لأيام الدراسة في سبعينيات القرن الماضي في موسكو، عندما غرست معلّمة اللغة الروسية فيَّ محبة اللغة وآدابها، مِن خلال تشجيع الميول الموجودة عندي في الأساس لتعلّم اللغات، وذلك من خلال تشجيعي والذهاب معي أحيانًا من أجل حضور مسرحيات لكبار الأدباء الكلاسيكيين وزيارة المتاحف ودور السينما. ومِن ثَمّ عمّقت هذه الرغبة عندي بأن أهدت إليّ كتاب الملاحم الشعرية لشاعر روسيا الكبير ألكساندر بوشكين، مع إهداء هو عبارة عن قصيدة له ترجمتُها فيما بعد مطلعُها: "إنْ خدعتك الحياة فلا تحزنْ ولا تغضبْ"، وصار الآخرون ينسخونها ويتداولونها حتى قبل ظهور فيسبوك مِن دون ذكر المترجم الأصلي.

ومن ناحية ثانية، استفزّني قول أحد الكتّاب السوريّين أثناء زيارته لي في مكتبي ذات يوم بأنه "غير مُعجب" بأشعار بوشكين التي قرأها مترجمة إلى العربية، فقلتُ له: المُلام في ذلك ليس بوشكين وإنما الترجمة. وعلى أثر ذلك قمت بكتابة مقال نقدي بعنوان "دراسة في ثلاث ترجمات لأشعار بوشكين" نُشرت في الملحق الثقافي لصحيفة "السفير" اللبنانية عام 2004 بعنوان "بوشكين العربي قتيلًا"، ومن ثم تعزّز الشغف بعد أن قرأ أحد الأدباء مطلع التسعينيات مقطعًا مترجمًا من كتاب "ثلاث عشرة قطّة سوداء" فأُعجِب بالنص وباللغة وحرّضني على الانتهاء بأقصى سرعة من الكتاب (صدر عن دار المدى عام 2008). وهكذا بات لا مفر من تجسيد حلمي القديم الذي لم يختفِ قط للقيام بترجمة ما تيسّر من آداب اللغة الروسية شعرًا ونثرًا وفكرًا، مع الإشارة إلى أنني حملت معي منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي كتبًا بعينها بقصد الترجمة وتقاعست عن فعل ذلك بسبب ممارسة مهنة الطب التي كانت تستغرق كامل وقتي.


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟

- آخر كتاب قمت بترجمته هو رواية لكاتب روسي مقيم في فيينا ويحظى باهتمام كبير من قبل النقّاد والقرّاء، ويُعتبَر أحد أبرز الكتّاب الروس في مجال الرواية ما بعد الحداثوية، وهو ميخائيل شيشكين والرواية تدعى "رسالة فينوس" وصدرت عن دار المدى. وقبلها نشرَت لي "دار سؤال" في لبنان رواية "عزازِل" للكاتب الروسي بوريس أكونين وهذا اسمه الأدبي، وهو مقيم في لندن، ويُعد أحد أبرز كتّاب الرواية التي تجمع ما هو بوليسي تشويقي مع ما هو سياسي. 
أمّا اليوم، فقد أنجزتُ ترجمةَ عملين في مجال الأدب الكلاسيكي ومجموعة قصصية لعدد من الكتّاب السوفييت المشهورين، كما أعمل على ترجمة أكثر من كتاب ومن أجناس مختلفة، منها ما هو من الأدب الكلاسيكي الروسي ومنها التاريخي السياسي ومنها الفكري.


■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟

- يواجه المترجم العربي عقبات عديدة ومن طبيعة مختلفة. فمن ناحية، لا تتوفّر المراجع والقواميس الضرورية (روسية - عربية) لا سيما قاموس مفردات روسي عربي، يضم المفردات والمصطلحات؛ سواء العلمية الحديثة أو من اللغة الروسية القديمة التي يقوم عدد من كتّاب الرواية ما بعد الحداثية الروس باستخدامها في أعمالهم. وهذا جانب يتطلّب تضافُر الجهود بين أكثر من جهة من أجل تذليله. إلّا أنه ما من أحد يفكّر أو يعمل في سبيل ذلك. كما أن المترجم العربي متروك لرغبات وأهواء الناشر. وليس سرًّا أنّ بعض أصحاب دور النشر يمارسون عملهم كتجار ولا علاقة لهم بالأدب وبالبحث الفكري وما شابه. دعك من ظلم الناشر للمترجم وقيامه في بعض الأحيان - وهذا والحق يُقال حالات معزولة وليس ظاهرة - بالافتئات على حقوق المترجم المادية والمعنوية، وهذه الحوادث تتكرر مع دور نشر سورية لن أشرّف أصحابها بأن أذكرهم. 

وعلى العموم معظم دور النشر العربية، باستثناء السورية ربما، تحترم عملها وعمل المترجم وتقوم بتنظيم عقود وتتقيّد بالتزاماتها.

تأخرّتُ عن الترجمة بسبب الطب الذي كان يستغرق كل وقتي

■ هناك قولٌ إن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟

- بصراحة هذه مسألة إشكالية وتحتاج لبعض التدقيق. هناك أعمال تحتاج لتحرير وخصوصًا الأدبية، وهناك ما هو أقل حاجة لمثل هكذا تحرير. على أية حال، معظم دور النشر الجادة تعتمد محرّرين يقومون بمراجعة العمل المترجم. وأعتقد، وهذا رأي شخصي، أنّ من واجب دار النشر التعاقد مع محرّر لمراجعة وتحرير ما يُعرَض عليها من أعمال مترجمة. 


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟

- هناك أعمال أقوم أنا باختيارها وبترجمتها، وهذا أمر يتعلق غالبًا بالأعمال ذات الطابع الفكري والسياسي غالبًا. وهو جانب ينطوي على متاعب في إيجاد ناشر يقدّر أهمية العمل. وقد تمر فترة طويلة جدًّا دون أن أجد ناشرًا ويبقى العمل محفوظًا في "أدراج" الكمبيوتر. وهناك دور نشر تقوم بالبحث عن عناوين وتبرم العقود اللازمة مع المؤلّف أو الجهة الناشرة، وهذا يبقى أفضل للمترجم وللناشر، خصوصًا مع انتشار ظاهرة التقيّد بحقوق الملكية الفكرية في مختلف البلدان ومن قبل غالبية دور النشر العربية.


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- أنا شخصيًا توقّفت منذ أمد بعيد نسبيًا عن تقييم أي عمل إبداعي أدبي أو فكري انطلاقًا من الخلفية السياسية للمؤلّف. وفي أحيان معيّنة أتمنّى أن أقوم بترجمة وبنشر أعمال لا أتّفق مع أصحابها ولا تتوافق مع قناعاتي ويكون الهدف هنا هو الفائدة والمعرفة، وخصوصًا عندما يتعلّق الكتاب بقضايا فكرية وتاريخية لم يتم تسليط الضوء عليها أو أنّ المكتبة العربية تفتقر لمثل هكذا كتب ومراجع في هذا الصدد.

كمثال على ذلك، أذكر رواية "أولاد حي أرباط" التي تتحدّث عن عقد الثلاثينيات من القرن العشرين وعن قيادة ستالين للاتحاد السوفياتي في تلك الفترة. فقد حاول بعضهم أن يثنيني عن ترجمتها لأسباب أيديولوجية وحسب. ولكني أنجزت الترجمة وقد تأخّر صدور الرواية عن إحدى دور النشر الجادة لأسباب خارجة عن إرادتي لمدة سنتين، وأرجو أن يفي صاحب الدار بالعقد وبوعده وأن يعمل على إصدارها في أقرب وقت ممكن. 

الصورة
رسالة فينوس - القسم الثقافي

■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟

- للأسف الشديد، غالبًا لا توجد علاقة أو حتى معرفة بالكاتب الذي أقوم بترجمة أعمال له، ولكن في حالات معينة تتعلق غالبًا بترجمة الشعر نشأت علاقة طيبة مع الشاعر الذي ترجمت له. على سبيل المثال، نشأت بسبب ترجماتي لقصائد رسول حمزاتوف علاقة طيبة مع أسرة الشاعر ومع العديد من شعراء داغستان الذين أعتز بصداقتهم وهم مشهورون بالكرم وبالوفاء وبتقدير كل مَن يحب ثقافتهم، وقد دُعيت عام 2019 إلى "مهرجان الغرانيق البيض" الذي يُنظّم سنويًا ويتزامن مع ذكرى ولادة رسول حمزاتوف. كما نشأت صداقة افتراضية مع أحد أهم شعراء هولندا وهو آريين داينكِر، الذي ترجمتُ له عن الروسية ديوان أشعاره النثرية، والذي صدر عن "الهيئة العامة للكتاب" بعنوان "سلّم سكاربا". وهناك علاقة طيبة جدًّا مع عدد من الشعراء في شتى أنحاء روسيا ناجمة عن ترجمتي لقصائدهم. وأذكر هنا على سبيل المثال كلًّا من فتشيسلاف كوبريانوف الذي نحتفل معه هذه الأيام بعيد ميلاده الـ81، وهو من روّاد قصيدة النثر في روسيا، ومع الشاعرة الكبيرة أمينة عبد المنابوفا من داغستان، والشاعر والإعلامي مراد أحميدوف أيضًا من داغستان وغيرهم الكثير من الشعراء. 


■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟

- حتى الآن لم أطرح نفسي لا كاتبًا ولا شاعرًا. مع العلم أنَّ كل من قرأ ترجماتي في مجال الشعر خاصة كان يقول لي دائمًا بأن  ترجمةً كهذه لا بد أن يكون من ينجزها شاعرًا. بالطبع لديّ بعض الكتابات المعزولة ولكنها قليلة والسبب هو التفرّغ للترجمة. كما أن فكرة كتابة عمل من قبيل السيرة الذاتية تراودني باستمرار وقد قرّرت أن أتركه لآخر أيام العمر. 


■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟

- الجوائز الأدبية ظاهرة ضرورية ومفيدة مهما كانت قيمتها صغيرة أو كبيرة وبغضّ النظر عن الكثير من الملاحظات حول اختيار الفائزين، وما يرافق منحها من "ألاعيب" و"شخصنة" وهذه أمراض يبدو أن جميع الجوائز الثقافية في العالم تعاني منها. وللجوائز دور تشجيعي كبير في مجال الإبداع تأليفًا وترجمة.

من واجب دور النشر التعاقد مع محرّرين لمراجعة النصوص

■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟

- بالفعل، الترجمة بحاجة لأن تقوم بها وتتصدى لها مؤسسات سواء حكومية أو شبه حكومية. بكافة الأحوال نحن نعرف أن ما أنجزته مديرية الترجمة في سورية في مرحلة معينة كان يترأسها المفكر والأديب الكبير أنطون مقدسي كان عظيمًا، وقد تابعت "الهيئة العامة للكتاب" تقاليد العمل المؤسساتي في الترجمة، بالرغم من ظروف الحرب القاسية التي عانت وتعاني منها سورية. والشيء ذاته ينطبق على بقية الدول العربية الأخرى التي توجد فيها هيئات مكلفة بأعمال الترجمة. وهي على اختلافها تعاني من مشاكل تتعلق باختيار الكتب المترجمة وبمتابعة ما يستجد على صعيد الأعمال الإبداعية التي تصدر سنويًا في مختلف البلدان وفي شتى ميادين الأدب والفكر وغير ذلك، بالإضافة إلى غياب أي تنسيق مع دور النشر الخاصة في اختيار العناوين والأولويات وما شابه. دعك أحيانًا من تواضع المكافأة المادية التي يتلقاها المترجم لقاء عمله الشاق.


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

- لا أعتقد أنه توجد أسرار في الترجمة. بجميع الأحوال، وسواء كان مشروع الترجمة من اختياري أو من اختيار دار نشر معينة، أقوم بقراءة سريعة للعمل، وقد أقرأ عنه أو عن المؤلف في مواقع البحث. ويختلف الأمر، بالطبع، بين الرواية وبين الكتاب الفكري أو السياسي. وأود أن أشير إلى أنني في حال بدأت بترجمة كتاب ما، فأنا لا أُشرك معه أية ترجمة لأي كتاب آخر. وبعد الانتهاء من ترجمة الكتاب أقوم بطباعة نسخة للمراجعة والتدقيق مرتين على الأقل. وأشير هنا إلى أنني لم أكن متفرغًا في السابق للنشاط الترجمي إذا صحَّ القول، إذ كنت أطبق مقولة العظيم أنطون تشيخوف الشهيرة: "الطب زوجتي الشرعية والأدب عشيقتي"، أمّا الآن فأنا هجرت الطب وتفرغت للترجمة بالكامل.


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟

- هناك كتابان ندمت على ترجمتهما: في الحالة الأولى لأنني اكتشفت أن حقوق النشر بيعت لدار نشر معينة، وأنها قامت بإصداره قبيل انتهائي من ترجمته دون أن يكون لي علم بذلك. وفي الثانية لأن الدار التي حازت على حقوق النشر تعاقدت مع مترجم وبالتالي ذهب تعبي أدراج الرياح في كلتا الحالتين.


■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟

- أتمنى أن تحظى الترجمة إلى العربية باهتمام أكبر من القيّمين على الثقافة في بلداننا العربية، وأن تتحول الترجمة إلى نشاط متكامل يتم التنسيق فيه مع الهيئات المعنية في الدول التي نترجم عن لغاتها، وأن تُعقد المزيد من الندوات والمؤتمرات المكرسة للترجمة. ومن ناحية أُخرى، لديّ أحلام بترجمة عدد كبير جدًّا من الأعمال في مجال الأدب والتاريخ والفكر السياسي، ولديّ الكثير من الكتب التي تستحق أن تُترجم لأنها ستشكّل إضافة وغنى إلى المكتبة العربية.


بطاقة

كاتب ومترجم سوري عن الروسية، من مواليد طرطوس عام 1957. من بين إصداراته: "حضرة عنايت خان: تعاليم المتصوفين" (2006)، و"رحلة صيد وراء الفكرة" لفلاديمير ليفي (2007)، و" ثلاث عشرة قطة سوداء" ليوري دميترييف (2008)، و "الرماد الحار" لفسيفولد أفتشينّيكوف (2009)، و"رسول حمزاتوف - مختارات شعرية" (2010)، و"أن تختار القمر - قراءات ودراسات في الأدب الروسي" (2011)، و"كبرياء جريح - قصائد مختارة للشاعرة الروسية مارينا تسفيتاييفا" (2013)، و"حبُّ الحياة - حركة الحب. الرجل والمرأة" لجيكارنتسيف (2018)، و"ديوان الشعر الروسي" (2020).

وقفات
التحديثات الحية

المساهمون