مع مؤرّخي العصر المملوكي: تداخل السياسي بالديني في منظومتنا المعرفية

مع مؤرّخي العصر المملوكي: تداخل السياسي بالديني في منظومتنا المعرفية

15 أكتوبر 2020
زخرفة من بوابة مدرسة السلطان حسن في القاهرة (Getty)
+ الخط -

شهدت الفترة المملوكية نشاطاً فكرياً متميّزاً تمخّض عنه ازدهار العديد من فروع العلم كدراسة القرآن والحديث والفقه السُنّي بمدارسه الأربع والنحو والشعر والأدب ازدهاراً غير مسبوق، بالإضافة إلى العديد من العلوم العقلية كالطب والصيدلة والحساب والفلك والزايرجة (محاولة معرفة الغيب بطريقة شبه-علمية). فظهرت الكتب والموسوعات الكبرى التي وطّدت أسس بعض هذه العلوم كتفسير القرآن وشرح الحديث وتوسيع وتثبيت أحكام الفقه بكافة مجالاته وشرح التصوّف وأنواعه وبعض الكتب المهمة في الفروع الأخرى أيضاً مما لا يزال تأثيره محسوساً اليوم في الأوساط الدينية والفقهية بعد مرور خمسة قرون على تأليفه.  

ولكن العلم الذي ميّز النشاط الثقافي في العصر المملوكي أكثر من أي علم آخر هو علم التاريخ. ‮‬فعلى مدى القرنين والنصف من الزمن الذي‮ ‬حكمت فيه طبقة المماليك مصر والشام‮، ‬ظهرت مئات المؤلفات المتنوّعة في‮ ‬التاريخ والسير والتراجم بما تجاوز العصور السابقة واللاحقة حتى العصر الراهن‮. 

وإلى هذا فقد نبغ‮ ‬في‮ ‬العصر المملوكي‮ ‬نفسه العديد من الأسماء التي‮ ‬ما زالت أعلاماً‮ ‬تاريخية حتى اليوم مثل ابن فضل الله العمري وابن كثير‮ ‬والذهبي وابن العديم وابن طولون الصالحي في بلاد الشام‮ ‬وابن عبد الظاهر وابن الفرات وابن خلدون‮ ‬والعيني‮ ‬والمقريزي‮ ‬وابن تغري‮ ‬بردي والسخاوي‮ ‬والسيوطي‮ في مصر‬ وغيرهم الكثير ممن اشتغلوا بـ التاريخ،‮ ‬حتى ليخال المرء أن الاهتمام بالتأريخ قد فاق كل اهتمام علمي‮ ‬في‮ ‬ذلك العصر وأن كل من كتب وألّف في الفترة المملوكية في أي فن من الفنون أو علم من العلوم لا بدّ وأنه تعاطى كتابة التاريخ أيضاً‮.‬

كان معظم المؤرخين علماءً وفقهاءً من حيث الخلفية المعرفية، لأن طريق العلم الديني كانت طريق التعلم الوحيد المتوافر لهم. بل إن دراسة التاريخ كانت جزءاً من التعليم الديني، خاصة في ما يتعلق بتاريخ الإسلام الأول في عهد الرسول والصحابة، حيث استنبطت من وقائع حياة المسلمين الأوائل وتعاملهم بعضهم مع البعض الآخر الكثير من القواعد التشريعية.  

معظم المؤرّخين كانوا فقهاء من حيث الخلفية المعرفية

وكان جلّ العلماء، حتى أكثرهم محافظةً وتشدّداً دينياً، من أتباع طريقة صوفية أو أخرى، حيث إن الفقه والتصوّف كانا قد تصالحا في المنطقة بل وتحالفا في بعض الأحيان لخدمة السلطة قبل أكثر من قرنين. وقد عُرف معظم المؤرخين كفقهاء في واحدة من المدارس المذهبية السنية، أو كشارحي قرآن وحديث، أو كأمراء مماليك، أو ككتّاب وأصحاب مناصب في الدواوين المملوكية، والقلّة القليلة منهم كشيوخ تصوّف. وقد كتبوا التاريخ ضمن اهتمامهم بالتأليف كواحدٍ من أنشطتهم الفكرية والعلمية وأحياناً بالتكامل مع أنواع كتابية دينية أخرى برعوا فيها كشرح الحديث وعلم الرواة وسير الرسول والصحابة.  

ونحن لا نكاد نجد واحداً من المؤرخين العظام كتب فقط في التاريخ، وإن كان بعضهم قد اشتهر بأنه مؤرخ أولاً وفقيه أو محدّث أو أديب ثانياً كابن خلدون والمقريزي وابن الفرات وابن تغري بردي، وبعضهم الآخر بأنه فقيه أو محدّث أولاً ومؤرخ ثانياً كالسخاوي والعيني والسيوطي. وعلى هذا، فقد تأثرت كتابتهم التاريخية شكلاً ومنهجاً وموضوعاً بالكتابة الدينية ومناهجها وبُناها اللغوية والأسلوبية وبمحاكمتها العقلية واعتمادها على الإثباتات المطلقة وغيرها تأثراً مباشراً؛ بما أن تحليل ومنهجة العلوم الدينية كان متقدماً على غيره من العلوم وبما أن الخطاب المعرفي نفسه كان مجيّراً ومرتبطاً بالخطابين الدينيين، الفقهي وبدرجة أقل الإشراقي التصوّفي.  

بل ويمكننا القول بأن الكتابة التاريخية كانت بالنسبة للغالبية العظمى منهم مرتكزة أساساً على وظائف دينية أو أخلاقية مثل دراسة الجرح والتعديل وغيرها من طرق تحليل الحديث والسنة، أو علم الرجال لتمحيص سند الأحاديث المنقولة عن الرسول أو عن صحابته، أو في الاعتبار والعظة بشكل عام من قصص السابقين من أمم وشعوب وسلالات وأفراد لكي يتيقن المرء من أن وعد الله حق وأنه سيجازى على عمله في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة.  

بالإضافة لذلك، لعبت كتابة التراجم التي شكلت جزءاً مهماً من الكتابة التاريخية القروسطية، دوراً رئيسياً في تمحيص مراتب العلماء والفقهاء والقرّاء والمحدثين وفي إثبات مراجعهم ومصادرهم وتراتبياتهم العلمية، بما أن المنتمين لكل فرع من هذه الفروع قد شكّلوا سلاسل من السلطة المعرفية امتدّت لقرون عدة وأسبغت على كل من انتسب لواحدة أو لأخرى منها شرعية علمية ومهنية، وفتحت له بالتالي أبواب النجاح في المناصب أو التفوّق بالسمعة العلمية. وفي هذا طبعاً هدف لكل من كتب بما أنه هو نفسه قد انتسب لواحدة من تلك السلاسل ومنها استقى سلطته العلمية وبالتالي منصبه أو مناصبه وموقعه في المحيط المعرفي حوله. 

لعبت كتابة التراجم دوراً رئيسياً في تمحيص مراتب العلماء

ولكن هذه الخلفية الدينية لغالبية المؤرّخين‪ ‬وسيطرة الفكر الديني على مجالهم المعرفي لا تعني أنهم كانوا بعيدين عن واقع الحياة السياسية حولهم أو منزّهين عن المصالح الدنيوية، التي تمثلت بالنسبة لهم في المناصب  المتوافرة لأمثالهم، من خطابة وتدريس وإفتاء وقضاء وشهادة واحتساب وإشراف على ورث أو وقف وكتابة في ديوان السلطان أو في دواوين الأمراء الكبار والوزارة والحجابة وأحياناً رئاسة الدواوين. 

فنظام المدرسة الذي أدخله الوزير السلجوقي نظام الملك في القرن العاشر، لمقاومة المدّ الشيعي ولتدريب طبقة متديّنة ومتعلمة وملتزمة بالفقه السني لاحتلال كل وظائف الإدارة السلجوقية، كان قد أتى أكله وأصبح الطريق السائد للصعود في وظائف الدولة كلها. ولم يبق خارجه إلا بعض الوظائف المرتبطة بالمحاسبة وجباية الضرائب التي قاومت طغيان التعليم الديني وبقيت بعمومها بيد الكتّاب الذين تربوا في الإدارة وغالبيتهم من غير المسلمين.  

أما الوظائف الكتابية الأخرى من توقيع وإنشاء ومراسلة وكتابة سر وغيرها فقد تحوّلت بمجملها لخرّيجي المدارس من الفقهاء المعمّمين الذين جمعوا إلى ثقافتهم الدينية إلماماً واسعاً بمبادئ العربية والنحو والبلاغة والإنشاء وحلّوا بالتدريج وابتداء من العصر الأيوبي محل الكتاب الذين تدرّجوا في سلك الكتابة فقط من دون خلفية مدرسية.  

هذا التغيير في قواعد الإدارة، الذي بدأ لسبب أيديولوجي واضح في عصر الاسترداد السنّي، ترسّخ كتقليد ثابت في الدولة المملوكية. وصارت الإدارة المملوكية برمتها بيد العلماء والفقهاء والكتّاب المتدرّبين دينياً، وإن كانوا هم أيضاً قد حصلوا على علومهم في المدارس التي بنتها وموّلتها ودعمتها الدولة ممثلة بسلاطينها وأمرائها، وأصبح لها بالتالي الصوت الأقوى في توجهاتها وبرامج تعليمها واختيار معلميها وطلابها. من هنا بدأت جذور تداخل السياسي بالديني في منظومتنا المعرفية التي مازالت سائدة حتى اليوم.


* مؤرخ معماري مقيم في الولايات المتحدة

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون