مدن غير مرئية.. بيوتٌ صغيرة تخضَرُّ في الضواحي (14)

مدن غير مرئية.. بيوتٌ صغيرة تخضَرُّ في الضواحي (14)

23 يناير 2022
جزء من عمل بلا عنوان لـ أبو القاسم سعيدي (إيران)، زيت وأُسرُب على قماش، 1955
+ الخط -

تنشر "العربي الجديد"، على حلقات أسبوعية، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد كتاب "مدن غير مرئية" لإيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد قبل رحيله المفاجئ في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي.

 

المدن والسماء (3)

أولئك الذين يصلون إلى ثكلا يمكنهم رؤية جزء ضئيل من المدينة، أبعد من أسيجة الألواح الخشبية، ستائر الخيش، السّقالات، الدعامات المعدنية، المجازات الخشبية الضيّقة المدلّاة من حبال أو المسنودة بأحصنة نشر الأخشاب، السلالم، الحوامل. إذا سألتَ: "لماذا يستغرق إنشاء ثكلا وقتاً طويلاً مثل هذا؟"، يواصل السكّان رفع أكياس، إنزال خيوط تحمل قطعاً من الرصاص، تحريك فراشٍ طويلة صعوداً وهبوطاً، وهم يجيبون: "حتّى لا يستطيع خرابُها أن يبدأ". وإذا سُئلوا إن كانوا يخافون أن تبدأ المدينة ربما بالانهيار والتناثر قِطعاً ما إن تُزاح السقالات، يُضيفون بهمسة عجولة: "ليس المدينة وحدها".

إذا وضع أحدهم، غير مقتنع بالأجوبة، عينَه على شقّ في سياج، يُشاهد رافعات تسحب عالياً رافعاتٍ أخرى، سقالات من التي تحتضن سقالات أخرى، عوارض تدعّم عوارض أخرى. يسأل: "أيّ معنى يمتلكه بِناؤكم؟ ما هو هدف مدينة تحت الإنشاء إن لم يكن مدينةً؟ أين الخطّة التي تعملون بمقتضاها، أين المخطّط؟".
يجيبون: "سنريك إياه حالما تنتهي أشغال اليوم، لا نستطيع الآن قطْع عملنا".

عند الغروب يتوقّف العمل. يُخيم الظلام على موقع البناء. السماء ممتلئة بالنجوم. يقولون: "ذلك هو المخطّط".      

ليست أوليندا المدينةَ الوحيدة التي تنمو على شكل دوائر  


■ ■ ■


مدن مستمرّة (2)

لو أنّني لم أقرأ حين الوصول إلى ترود، اسمَ المدينة مكتوباً بحروف كبيرة، لفكّرتُ أنني كنت أهبط في المطار نفسه الذي أقلعتُ منه. لم تكن الضواحي، التي عبروا بي خلالها، مختلفةً عن الأخريات، ذات البيوت الصغيرة المُخْضَرّة والمُصْفَرّة نفسها. باتّباع العلامات نفسها درْنا حول أحواض الأزهار نفسها في الساحات نفسها. شوارع قلب المدينة التجاري عرضت بضائع، رُزماً، إشاراتٍ لم تتغيّر على الإطلاق. كانت هذه هي المرة الأولى التي أجيء فيها إلى ترود، ولكنّني عرفتُ مسبقاً الفندق الذي حدث وأن حَلَلْتُ فيه؛ سمعتُ ونطقتُ مسبقاً محاوراتي مع باعة ومُشتري المعدّات، وأنهيت أيّاماً أخرى مماثلة، ناظراً خلال الكؤوس نفسها إلى ذات النقط المتمايلة في وسطها. 

سألتُ نفسي: "لماذا المجيء إلى ترود؟"، وأردتُ المغادرة سلفاً. قالوا لي: "يمكنك استئناف طيرانِكَ متى أحببت، ولكنك ستصل إلى ترود أخرى، هي نفسها تماماً، تفصيلاً بتفصيل. العالم تغطّيه ترود فريدة لا تبدأ ولا تنتهي. لا يتغيّر سوى اسم المطار". 
 

■ ■ ■


مدن مخفيّة (1)

في أوليندا، إذا خرجتَ ومعك عدسة مكبّرة، وتصيّدتَ بعناية، قد تجد في مكان ما نقطة ليست أكبر من رأس دبّوس، نقطة تكشف في داخلها، إذا نظرت إليها مكبَّرةً تكبيراً طفيفاً، عن السقوف، الهوائيات، مناور المباني، الحدائق، البرَك، الأعلام الخفّاقة على جوانب الشوارع، الجواسق في الساحات، حلبة سباق الخيل. تلك النقطة لا تبقى هناك: بعد سنة ستجدها بحجم نصف ليمونة، ثم واسعة باتّساع نبات فطر، ثم طبق حساء. وبعدها تُصبح مِن ثمّ مدينةً بحجم كامل، حبيسةً داخل المدينة الأقدم: مدينة جديدة تشقّ طريقها قُدُماً في المدينة القديمة وتدفعها نحو الخارج.

دُرْنا حول أحواض الأزهار نفسها في الساحات نفسها

من المؤكَّد أن أوليندا ليست هي المدينة الوحيدة التي تنمو على شكل دوائر متّحدة المركز، مثل جذوع أشجار من تلك التي تضيف في كل عام حلقة إضافية. ولكنْ في مدن أُخرى يظلّ هناك، في المركز، الطوقُ الضيّق القديم من الجدران الذي تَبرز منه القِمَم الذابلة، الأبراج، السطوح القرميدية، القِباب، بينما تتمدّد الأحياء الجديدة حولها مثل حزام مفكوك. أوليندا ليست كذلك: الجدران القديمة فيها تتوسّع حاملةً معها الأحياء القديمة، مكبّرةً، ولكنها محافظة على تناسبها في أفقٍ أوسع عند حوافّ المدينة؛ إنها تطوّق الأحياءَ الأحدث على نحو طفيف، تلك التي تنمو أيضاً على الهوامش وتصبح أخفّ كي تُفسح مجالاً لِمَا لا يزال أقرب عهداً وهو يضغط من الداخل. وهكذا، باستمرار، وصولاً إلى قلب المدينة، تحتفظ أوليندا جديدةٌ تماماً ــ في أبعادها المختزلة ــ بسِماتِ ودفْق سائل أوليندا الأولى اللمفاوي وكلّ الأوليندات التي برعمت إحداها من الأخرى؛ وفي داخل هذه الدائرة الأعمق تُبرعم هناك الآن ــ رغم أن من الصعب تبينها ــ أوليندا التاليةُ، واللواتي سينشأن بعدها.


■ ■ ■


... حاول الخان الأكبر التركيز على اللعبة: ولكنّ سبب اللعبة هو ما أفلتَ منه الآن. غايةُ كلّ لعبةٍ إمّا ربحٌ أو خسارة؛ ولكنْ ربْحُ ماذا؟ وخسارةُ ماذا؟ ماذا كانت الرهانات الحقيقية؟ حين يُهزم الشاه، وتُزيحه يدُ الفائز جانباً، يظلّ تحت قدم الملك عدمٌ: مربّعٌ أسود أو أبيض. لقد وصل قبلاي، بتجريدِه لفتوحاته من مجسّداتها من أجل اختزالها إلى الجوهري، إلى العملية المتطرّفة: الفتح النهائي، ذلك الذي لم تكن كنوز الإمبراطورية متعدّدة الأشكال بالنسبة إليه سوى أغلفة خادعة؛ لقد اختُزل إلى مربّع من خشب منبسط.

عندئذٍ تكلّم ماركو بولو: "إنّ رقعة شطرنجكَ يا سيّدي مطعّمة بنوعين من الخشب: الأبنوس والقيقب. المربّع الذي تحدّق فيه نظرتُك المستنيرة قُطِعَ من حلقةِ جذع نمَتْ في عامٍ جفاف: أنتَ تَرى كيف نُظمت أليافها؟ هنا عقدة تُلمح لمحاً بالكاد يمكن تمييزها؛ برعمٌ حاول أن يتفتّح في يوم ربيعي قبل أوانه، ولكنّ صقيع الليل أجبره على التوقّف".
حتى هذه اللحظة، لم يكن الخان الأكبر قد أدرك أن الأجنبي عَرف كيف يعبّر عن نفسه بلغته بطلاقةٍ، ولكنّ هذه الطلاقة ليست  هي ما أذهله.

تتمدّد الأحياء الجديدة حول القِمم الذابلة مثل حزام مفكوك

"هنا مسامةٌ أكبر سماكةً، ربّما كانت عُشَّ يرقة؛ ليس دودة خشب، لأنّ هذه تبدأ الحفر ما إن تُولد، ولكنّها يرقة فراشة، تلك التي مضغت أوراق الشجر، وكانت سبباً في كون الشجرة اختيرت لتقطع...
هذه الحافّة كشطَها نحّات الخشب بإزميله كي تلتصق بالمربّع المجاور، إنها أكثر بروزاً...".

لقد أربكتْ قبلاي كمّية الأشياء التي يمكن قراءتها في قطعة صغيرة من خشب ناعمة وخالية؛ كان بولو قد بدأ يتكلّم سلفاً عن غابات أبنوس، عن أرماث محمّلة بجذوع تنحدر في الأنهار، عن أرصفة تحميل سفن، عن نساء عند النوافذ...

■ ■ ■


يمتلك الخان الأكبر أطلساً رُسمت فيه كلّ مدن الإمبراطورية والمناطق المجاورة لها، بنايةً بناية وشارعاً شارعاً، بأسوارها وأنهارها وجسورها وموانئها ومنحدراتها الصخرية. إنه يدرك أن من العَبَث توقُّعُ أن تأتيه أخبارٌ من حكايات ماركو بولو عن هذه الأماكن، تلك التي، في ما يتعلّق بهذا الأمر، يعرفها جيداً: كيف أنه توجد في كامبالو، عاصمة الصين، ثلاث مدن مربّعة تقوم إحداها في قلب الأخرى، لكلّ واحدة منها أربعة معابد وأربعة أبواب تُفتح حسب تعاقب الفصول؛ كيف أنه على جزيرة جاوة يثور وحيد القرن، مهاجماً، بقرنه القاتل؛ كيف تتجمّع اللآلئ في قاع المحيط على مبعدة من سواحل مالابار.

أربكتْ قبلاي كمّية الأشياء التي يمكن قراءتها في قطعة خشب

يسأل قبلاي ماركو: "حين تعود إلى الغرب، هل ستكرّر لشعبك الحكاياتِ نفسها التي حكيتَها لي؟".
يقول ماركو: "أنا أحكي، وأحكي، ولكنّ السامع لا يحتفظ إلّا بالكلمات التي يتوقّعها. إن وصْف العالم الذي أعرتُه سمعكَ الكريم شيءٌ؛ والوصف الذي سيدور بين جماعات حمّالي السفن ونوتية الجندولات في الشارع خارج بيتي في يوم عودتي شيءٌ آخر. وعلاوة على هذا، سيكون هناك وصفٌ آخر، ذلك الذي قد أمليه في أواخر حياتي، إذا أخذني قراصنة جنوة سجيناً وقيّدوني في زنزانة واحدة مع كاتب قصص مغامرات. ليس الصوت هو ما يهيمن على القصة: إنها الأُذن. 

"أشعر بين وقت وآخر أن صوتك يصلني من مكانٍ بعيد، بينما أنا سجينُ حاضرٍ مبهرجٍ غير قابل للعيش، حيث وصلتْ كلّ أشكال المجتمع الإنساني إلى نهاية قصوى من نهايات دورتها ولا مجال لتخيُّل أيّة اشكال جديدة قد تتّخذها. وها أنا أسمع، من  صوتك، الأسباب غير المرئية التي تجعل المدن تحيا، الأسباب التي ربما ستحيا بوساطتها، مرّةً أخرى، المدن التي ماتت ذات يوم".


* ترجمة: محمد الأسعد

المساهمون