مجاورة عبد اللطيف اللعبي: الشاعر وخَجلهُ المُنقِذ

مجاورة عبد اللطيف اللعبي: الشاعر وخَجلهُ المُنقِذ

15 ديسمبر 2021
عبد اللطيف اللعبي
+ الخط -

على ورقة بيضاء يمكن للفنان خربشة خطوط وظلال تنتظم بالتدريج في أشكال ورسومات، كما يمكن للكاتب أو الصحافي تدوين كلمات تتراصف في سطور وفقرات. لكن الشاعر الذي لا يتشكّل سوى أمام هذه الحيّز الهشّ، مطالَبٌ، أكثر من غيره، بفعلٍ آخر، أشدّ خطورة ربما: الإبقاء، قدر الممكن، على فراغ الصفحة أبيضَ من كلّ سوء، بحيث يتمّ تفعيل المرآة برفق، بما يتلاءم مع انعكاس الامتلاءات، من دون أن يتأذّى صفاؤها وتُشَوُّش الرؤية.

هذا ما يحاول فعله الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي (1942) في مجموعته الشعرية الأخيرة "لا شيء تقريباً" (صدرت بالفرنسية العام الماضي). أقول "يحاول" بدلَ "يفعل"، بسبب وجود هذا النفي الناعم في العنوان ("تقريباً")، كدلالة على استحالة تلاشي الأشياء بشكل كليّ، وأيضاً استحالة الإبقاء على الأشياء أو المحافظة على البقاء إلّا بشكل نسبي للغاية. لأن هذه المحاولة التي تبدو، لأوّل وهلة، سهلة المتناول، تستحيل على الفور إلى ورطة لدى شاعر انشغل، طيلة سبعة عقود، بغمس صفحات حياته في المحبرة السِرّية ذاتها، دون أن يستطيع يوماً استنفادها.

ذلك أنه يجد نفسه أمام صفحة مليئة سلفاً ــ بالقدر ذاته ــ بمضاعفاته وظلاله المتنكّرة، تستدعي قبل كلّ شيء خلْقَ وتمهيدَ مساحات شاغرة تتّسع للقصيدة التي لا تكتمل إلّا عندما تتحوّل إلى بؤرة صغيرة، لإذابة العناصر كلّها وامّحائها وزوالها في وهجٍ جامع يتلاشى سريعاً لدرجة يصعب معها تأريخ ميلادها سوى بشكل تقريبي. تماماً مثلما لا يتبقّى في قعر فنجان بنّ الشاعر سوى حبّة الهال التي يتذوّقها منتشياً ككسرة من صورة مهشّمة مضيئة، لأنّ اجتراح ما قلّ ودلّ "يتطلّب العيش أطول/ والتخطيط/ أو الكتابة فقط/ عند طفح الكيل/ وبمجرّد تدوين النصّ/ سيتعيّن حذف نصف الكلمات...".

وإذا كان مجرّد التفكير في الكتابة يعني وفقاً لتعبير الشاعر "اغتصاب الصفحة العذراء" وإقراره بانتهاء "عصر النبوة" بسبب "تعفّن اللغة"، فلا مناص من البدء باختبار تنظيف هذه الصفحة من الشوائب والتعب وتراكمات العمر، والقبول بمحدودية وحتْف الأشياء مهما بدت خالدة ومجيدة، لمجرّد الإبقاء على هذا "الأبيض/ بلا لونٍ مُضاف/ بليغاً كالأسود"، كحلم. كأنّما يقرّر فجأة تغيير عنوانه وإخلاء هذا البيت الشعري المشيَّد على امتداد عقود؛ طالما أنّ حظ الشاعر يشبه حظ البنّاء، في الاشتراك في رفع المباني لتركها بمجرّد اكتمال بنائها حتى يسكنها الغرباء، بينما يسارع كل منهما بلملمة الأدوات للعودة إلى الإقامة في الأكواخ والغرف، ولا بأس بسرقة مقبض باب أو صنبور أو نافذة للذكرى.

وبقدر ما يحرص الشاعر على الترحّل بين العناوين لعدم الاستجابة والركون إلى الرفاهية الشعرية، بقدر ما يصير بيته عائلياً أكثر بالأصدقاء الجُدد، لا سيما أنّ هذا العامل يقوم بعمله بشكل جيّد فقط في ظلّ إكراهات وإلحاحات السياقات الاستعجالية، ولا يحتاج عند الانتهاء إلّا إلى وجود شرفة القارئ الجار محاذية لشرفته ليستنجد به كي "يتنفّس الصعداء ويقلب الصفحة" بدلاً منه.

يدٌ شعرية متكاثرة، كأنما هي حقل زهور عبّاد شمس

منذ الصفحة الأولى، تبدو القصيدة محطّ سوء تفاهم بين الصوت المحذِّر للشاعر بعدم الاستمرار في الكتابة، والشاعر الموافق كلّيّاً على النصيحة، وبين هاته "اليد التي تنشط على الصفحة"، غير آبهة للتحذير رغم الإجماع: يبدو في هذه الملابسة أن الشاعر والصوت الصادر من الأعلى عاجزان تماماً عن تقييد حركة اليد الطليقة والمستقلّة بأخذ قراراتها بعيداً عن إدارة العقل والجسد. مَن تكون هذه اليد الخارجية المتمرّدة؟ إنها ببساطة يد القصيدة النشيطة التي لا تستحوذ على شيء آخر في كيان الشاعر باستثناء هذا الجزء الختامي للأطراف الذي يتيح توسيع نطاق الجسد والروح إلى أبعد حدّ يمكن تصوره، لا سيما أن الشاعر يُدخل تعديلاً حاسماً في حاضر التواصل الشعري، مقترحاً: "بين الدماغ واليد/ لا أرى غير القلب حلقةَ وصْلٍ".

لذلك فإن الإقرار بالعجز عن الانقطاع عن الكتابة، لا يشير سوى إلى استقلالية وحرّية حركة القصيدة هنا في زرع وتكرار هذه اليد الشعرية المتكاثرة، كأنما هي حقل زهور عبّاد شمس متحرّرة لا تني تكمل رقصاتها بأجرامها المنتصبة وأسطواناتها الشعاعية الواسعة، في جنوحها الصباحي باتجاه المشرق، ملاحقتها للشمس أثناء النهار، لتختم دورانها الصوفي حول الكواكب في العصريات بميلانها نحو المغيب. وعندما يحتفي الشاعر في القصيدة بتخليقها الضوئي الذي كان وراء إزهارها، يستحضر أيضاً لحظاتِ الاختناقات الكثيرة التي تعذّر فيها وصول الضوء والأوكسيجين، مبقياً بالقدر ذاته، في "طوافه المؤلم حول الأمل واليأس" معاً، على البذور المحترقة بجوار تلك الناضجة، للتنويه بهذا "الكتاب المصمّم في أدقّ تفاصيله ولا ينكتب أبداً" حتى في ختام هذه "الحياة السابعة" الأخيرة.

بين استحالة الإبقاء على الأشياء والمحافظة على البقاء بشكل نسبيّ للغاية، وبين استحالة تلاشي الأشياء والبقاء بشكل كلّي؛ بالكاد تنتصب القصائد القصيرة في الضوء، على سيقان مرتعشة يكسرها هواء الخارج، لتتعلّم المشي من جديد، كما أنها لو خرجت للتوّ ــ بسبب وعكة برد ــ من إقامة قصيرة في مصحّة. وبينما تغتنم أوّل فرصة متاحة للمسارعة بوضع بطاقاتها الشِّعرية السريعة في صندوق البريد، لا تنسى أن تحتفي بنقاهة الكلمة التي لا تخفي وجهها الآخر؛ بالشمس والطقس السيئ وهشاشة العمر وسوء التفاهمات المتراكمة على حدّ سواء؛ بالجَرد الضروري والمُبرَّر للسعادات والشجون والمنغّصات والكبوات، حتى لو كانت الحصيلة "لا شيء تقريباً". كأنما مهمّة الشعر إفراغُ الأشياء من شيئيّتها، كليمونةٍ، للاحتفاظ فقط بالغشاء.

الذاكرة، وفيّة أو خائنة، تعمل كشاعر يترجم شاعراً آخر

ولا حاجة للذكْر أن هذه الوصية محاولة عسيرة لتحرير القول الشعري من الكذب العذْب، الملتصق كطلاء منمّق سريع التقشُّر، بمفرداتِ لغةٍ لا تستنقذ أشياءها/لا أشيائها الغريقة من العدم سوى من أجل المراجعة الهادئة، مع الإبقاء على تشطيبات فرشاة بلاغتها المتقشّفة. لأنّ هذا البوح الشعري المتأخّر، بنبرته المتعقّلة والنقدية، لا يتورّع في المجازفة بالاقتراب الصعب من مربّع الصدق الضيّق لشعراء قلّبوا حقائق العالم بين أيديهم، بما يكفي للتعرّف على زيف العملات المتداوَلة على اختلاف الأزمنة، رغم التطمينات المقدَّمة، الزائفة أيضاً، مبقين بالكاد على شرارة الشعر "قطعةَ أمل معدنيةً" حارقة، نادرة، باقية من طفولة البدايات، باختيار الشاعر الدّال تصدير مجموعته الشعرية الأخيرة بأقوال لأبي العلاء المعري وعمر الخيّام والنفّري، ربما لتحذير قارئ متسرّع بعدم الانخداع سلفاً قبل المضيّ في القراءة.

لعبد اللطيف اللعبي تأثيرٌ على قارئه يظلّ مطبوعاً بداخله. تأثير المشّاءين القدامى الذين لم تكن تخلو منهم المدن والقرى، قبل زحف جيوش السيّاح. ولا نحتاج، للتعرّف على هذا المشّاء، سوى لقبول واحترام شروط صداقة جامحة وصريحة منذ اللقاء الأول، للمشي سويّاً بنفس الخطوات، وضبْط التنفّس على نفس الوتيرة: فمفرداته تدريبٌ متواصل على المشي، بغضّ النظر عن العمر وحالة الرئة. لكنّه يضطرّ للتوقف بين حين وآخر لتفريغ زخّات إيقاعاته وشطحاته المتوالية التي تولد مرّة أخيرة، ولحظات الصمت التي يعقبها استئذان من الشاعر في الانصراف ريثما يشحن بطّارياته ويعود بسرعة. لأن قصائده خيامٌ صغيرة تتناثر في غابات استوائية لمتابعة حفلها الموسمي الأوحد الذي يشرك المطر الغزير والشمس الحارّة للعزف معاً في آن واحد، ضمن نفس الأوركسترا الصاخبة على مدار السنة.

الصورة
غلاف لا شيء تقريباً

لِمَن لم يسعفهم الحظّ برؤية الشاعر عبد اللطيف اللعبي عن قُرْب، أضع بين أيديهم هذه الصورة من الذاكرة في أحد المعاهد الفرنسية: بعكس الشعراء الذين يعتنون بربطات عنقهم وأوشحة الكشمير أكثر ممّا يعتنون بشِعرهم، الذين يُسارعون بحقائبهم الجلدية المتدلّية على الأكتاف إلى موائد المقاصف والنبيذ المجّاني في المهرجانات والملتقيات، الذين تعرفهم من مهارتهم في تدوير الكلام علكةً في الأفواه، بطلاقة إيماءات الأيادي، والمبالغة في إبداء الاهتمام أثناء الإنصات، على الطريقة الغربيّة، رافعين كؤوسهم؛ بعكس هؤلاء الفرحين بتعليق بطاقات التعريف في الأعناق؛ يبدو التشويش غالباً على شاشة وجه اللعبي، كما لو أنه يعجز عن التقاط ما يدور حوله، أو أنه لا يملك رمز الدخول، أو غير مصدّق لما يجري. ما يمنحك انطباعاً بأنه مُحْضَرٌ رغماً عنه، تكبّل يديه المتشابكتين وراء ظهره أغلالٌ غير مرئية؛ لذلك يغتنم أدنى فرصة للنفاذ من الحلقة المضروبة حول عنقه النحيل ــ الذي تُلاحظ فيه مُراوحةُ التفّاحة في حنجرته تعبيراً عن عدم الارتياح ــ مسرعاً بتلبية دعوة طالب مرتبك لا يقوى على استجماع خجله، وبلورة نداء ولو صامت برفع أصبعه، مستأذناً لمحادثة قصيرة على انفراد. الشاعر، الذي يعتذر بانحناءة رأسه من الطوق الخانق الذي يتركه على عجل، يخال الناظر إلى قامته المورقة وهي تغادر بهدوء، شجرةَ بونساي متفرّعة تذرع الممر خلسةً في أصيصها.

ليس لأنه خبَر بالتأكيد يوماً ما يختبره هذا الفتى المبتدئ، بل لأنه غير مدين في طواف منافيه سوى لهذا "الخجل المنقِذ"، بشجونه المشتعلة نقاطاً صغيرة مضيئة، متناثرة على طول الطرقات الهامشيّة المَتاهيّة، وحدها، حتى يهتدي بها الرُّحَّل والتائهون. وعندما يتكلّم يتلعثم صوته الخفيض المتشكِّك والقريب إلى الهمس منه إلى الكلام، كما لو يصدر عن شخص آخر يستضيفه داخله لم يعْتَد عليه بَعد، وتمتزج حروفه الملفوظة بأنفاسه السخيّة المتلاحقة، فيما يستعيد الوجهُ حيويّته وإشارات إرساله المضيئة، كما لو يتنفّس أكثر ممّا يتكّلم أو يتكلّم لمجرّد التقاط أنفاسه، ويضطرّ للسكوت بين فكرة وفكرة لمراجعة نفسه، ومحاسبتها على الفور، لو تطلّب الأمر، بقسوة، أمام الغريب. كأنما يعتذر سلفاً من مستمعه وقارئه من عدم مطابقة الطوابع البريدية على أظرف الكُتُب تماماً للساعي الذي أوصلها، بينما يمدّ يدَ بستانيّ صديقة تصافح بحرارة، مفسحةً للزائر إكمال نزهته في الحديقة بعد هذه الاستراحة القصيرة.

عملٌ يذكّرنا بأن الشعر في جوهره عطاءٌ ومشاركة

ببضع كلمات يختصر الشاعر، في أحد نصوصِه، طفولَتَه المبكّرة في مدينة فاس العتيقة: "طفلٌ صغير" يجلس على "مقعد حَجريّ"، أو "يستلقي على سحابة"، لمشاهدة الحركة الدؤوبة "للبشر والدواب"، "بشعورٍ أثقل من عُمري/ أنّني غير موجود"، بتعبير الشاعر. المشهد مختزَل إلى أقصى حدّ. طفولة صامتة تتفرّج على حركة العالم، لأنّها لا تستطيع المشاركة، وبالتالي تشعر أنها غير موجودة أصلاً، كشعور باهظ بالإقصاء، وفي الآن ذاته عقاب من العالم على الاكتفاء بالفرجة.

في المجموعة ذاتها نعثر على نصوص متجاورة أخرى تضيء أكثر هذا النص، وتستعيد نفس المشهدية الصامتة بخمودها الذي يوحي بعطالة وجودية. لنأخذ مثلاً نصّ "أخبار المؤلِّف"، الذي يصوِّر حياة الشاعر وضجر الممارسة الشعرية بلهجة ساخرة للغاية: تبدو حياة الشاعر كدحاً تائهاً ومراوحةً مضحِكة، بإصراره على ملء الفراغ بالثرثرة والثورية، بنظم "الأشعار بين حين وآخر"، وقراءة "الروايات وأشعار رفاق الكفاح"، و"الاعتناء بالزرع"، بينما يترقّب زيارة إلهام فُجائيّ، كي "ينغمس في خطيئته"، "شاعراً بالانتشاء" و"التخفّف من حِمْل قلبه الثقيل".

من المؤكّد أن حياةً كهذه ليست جذّابة للتصوير ولن تغري أيّ مُخرجٍ مهما كان متحمّساً لتصويرها، وحتى الشاعر نفسه لا يستطيع رسم لوحة ملوّنة لهذه المراوحة الكادحة، بل "يشكّ بصدقٍ في أن يكون قد عاشها من قبل/ لدرجة تبدو جنينية/ وحتى افتراضية". وفي مكان آخر يقول: "لا أعرف ما إذا كان ما أعانيه/ ينتمي إلى حياتي السابقة/ أو اللاحقة/ تلك التي أشكّ في وجودها دائماً/ قاسية كالحديد/ لكنني لا أهتمّ". ونستحضر هنا بيير ريفيردي (الشبيه في نُسكه بالشاعر) عندما طُلبت منه سيرة ذاتية فاختصرها في سطرين: "حياة معتمة، بلا بريق، بلا ألوان زاهية". وأضاف لاحقاً: "بلا رحلات، بلا مغامرات، وبلا قصّة، بل قصص فقط"؛ لعلّها قصص ملاحقاته المحمومة لقصائده الصغيرة الهاربة.

إجراء مقارنة سريعة بين النصّين يجعلنا نلاحظ أن الشاعر أخَذَ النصّ الأوّل وقام بإفراغه من رومانسية الأمس، وتعبئته بسخريةِ ما آل إليه حاضرُه، لكن مع الاحتفاظ بنفس المشهدية الصامتة التي تتفرّج على العالم رغم اختلاف الديكور قليلاً، كدليل على خطّية الشاعر في مماثلة نفسه وتسطيرها في جميع مراحل عمره بنفس المسطرة. الفارق الموجود بين النصّين هو عاملُ الزمن والوقوع في مطبّ اللغة. ففي النصّ الأول، نرى ملامحَ شاعرٍ قبل الأوان، نتعاطف مع موهبته المبكّرة في ركوب السحابة، بينما نتعرّف، في النصّ الثاني، على الشاعر ذاته لكن بعد فوات الأوان ربّما، أي بعد تورّطه في القول، إذ يدعونا بنفسه للسخرية منه، ونتساءل إن كان لهذه الخطيئة المقترَفة علاقةٌ باختفاء السحابة، أي بنزوله الاضطراري إلى الأرض.

إنها وضعية الشاعر الأنطولوجية، المنذورة سلفاً للعطالة والإقصاء والبقاء في موضع المتفرّج، باعترافٍ من الشاعر يَقْلب الكوجيتو الديكارتي في أحد النصوص: "أنا أفكّر، إذاً أنا غائب". ولذلك يتحسّر بمرارة في موضع آخَر كما لو كان يحنّ إلى شاعر الطفولة الصامت والسحابة المركوبة مجّاناً: "ينبغي على الشاعر أن يموت شابّاً/ وإلّا...". نقاط الحذف لا تحتاج إلى ترجمة وإشارة خفِيّة إلى أنّ لغة الشعر ليست سوى تدوين للصمت والكلام بلا صوت، ولنقلِ عجزٍ عن الفعل والتعبير، ما يدفعنا للتساؤل ثانيةً: هل خان الشاعر فعلاً نذر الصمت القديم بالاكتفاء "برفع سبابته" في الهواء، راسماً إشارة الرفض قبل مغادرة المسرح؟

محاولة لتحرير القول الشعري من الكذب العذْب

لكن إذا كان هذا حال الشعر وحال الشعراء، فلماذا يصرّ هؤلاء الملهمون بذكائهم على البقاء في الخانات الضيّقة؟ لا سيما أن المواهب لا تعوزهم، كما يؤكّد لنا الشاعر في أحد النصوص، مدوِّناً قائمة المِهَن المواتية التي فوّت على نفسه فرصة مزاولتها. وتأتينا محاولات الإجابة دائماً من الشاعر نفسه على امتداد صفحات المجموعة، لا كتبرير متأخّر أو مراجعة للوضع الاعتباري للشاعر، بل فقط لمسح الغبار عن نظّارته الشعرية القديمة، فيما يعيد التحديق إلى ألوان سبّورة البدايات والتلميذ الذي كان يتعلّم تهجئة "ألفباء الحبّ"، وتفعيل كيمياء الاتصال والتواصل مع العالم والأشياء، مستذكراً أن الصفحة المصقولة على مرّ السنين ما هي إلّا طريقة للحفاظ على التلقائية في التفكير والشعور والحب والصداقة ولقاء الآخر، التلقائية في الجلوس على المائدة بجوار القطّة، والإمساك بالطبَق والرغيف والملعقة والتقاط الصور، كأنما يستعيد مفتاح الباب الضائع.

لهذا فإن الشاعر ليس معنيّاً إلّا بالحفاظ على سريان هذه الكهرباء في علاقته بالأحياء، بما تسعه المفردة من كائنات. لكنّ هناك كائناً يستأثر باهتمام الشاعر أكثر من غيره: إنه القارئ الذي يُبقي الشاعر دائماً على جواره، فيما يجاور بين الشعر والنثر دون رهبةٍ في نفس المدفأة، وأحياناً يصطفي هذا الجار لدرجة يدعوه إلى مشاركته العيش تحت سقف واحد، ولِمَ لا: تقاسُم أعباء الإيجار الشعري.

في شذرة مكثّفة سبق إيرادها نقرأ التالي: "هل يوجد أحدٌ هنا كي يتنفّس الصعداء ويقلب الصفحة؟"، يبدو النداء كاستغاثة من الشاعر، في عزّ الليل، بهذا الشريك الموجود بالقرب في الغرفة المجاورة، والذي سيسارع بترك سرير نومه للمساعدة. بلا شكّ سيصاب بالدهشة عند محاولة الاستجابة لهذا النداء. طلبٌ غريب من الشاعر بأن يتنفّس الصعداء شخصٌ آخر بدلاً منه ويقلّب الصفحة. إنها تنهيدة الخلاص، الخلاص الصعب عند الانتهاء للتوّ من القصيدة: "في ليلة سُهاد أخرى/ ساحة معركة/ مألوفة/ حيث الرغبة في الفوز ليست أكثر ولا أقلّ حماسة من الرغبة في الهزيمة"؛ تنهيدة محارب متعب يعلن: "سأكون سعيداً!/ بلا أسَفٍ ولا ندم/ الانتظار ولّى/ انتهى الأمل/ سيكون مجرّد دليل أخير على الحبّ/ التخلّي التام/ ثم الابتعاد/ حتى انمحاء كل الآفاق/ وسيادة الصمت الرحيم/ الكثير من المسرّات المأمولة/ أخيراً يتمّ الوفاء بها".

مع ذلك فإن الشاعر الذي يستأثر بعطاياه قارئاً يؤْثره على نفسه المهضومة، يخصّه أيضاً بخلاصه الفردي ــ كدليل أخير على هذا الحب ــ للتذكير بأن الشعر في جوهره عطاء ومشاركة. لكنْ هل سيتسنّى لهذا القارئ الشريك تنفّس الصعداء قبل قلب الصفحة؟ إنها دعوة حميمة متطلِّبة من الشاعر إلى إعادة اختبار وتخليق ضوء القصيدة من جديد، تشتيت حروفها في الفضاء، ولملمتها حرفاً حرفاً، وترصيفها في كلمات وسطور حتى ينتهي تشكيل الباقة. لأنها القصيدة التي لا تبتدئ إلّا عند الانتهاء من قراءتها وقلب الصفحة، لتعقّبها في تحليقها قبل نزولها على الورقة، طالما أنّ الشاعر، مهما عمل بجدّ، تظلّ قصيدته مجرّد مسوّدة منقوصة، أي: ترجمةً تقريبية، هو الذي يتأسف أنّ "الذاكرة/ وفيّة/ أو خائنة/ تعمل/ كشاعر يترجم شاعراً آخر". لذلك، فإن القارئ مطالبٌ ــ بدوره ــ بقراءةٍ خلّاقة بالقدر ذاته، تُعيد ترجمة الترجمة. باختصار، الشاعرُ لا يضع القصيدة بين يدي القارئ إلّا بعد تفريغ الصدفة من حلزونها (شاعرِها)، حتى يتيح للقارئ إلصاق أذنه بفوّهتها للإنصات إلى موسيقى الأصداء، المتعاقبة، القادمة من البعيد، بالذكريات العائدة ببهاء أكثر ممّا كانت عليه في الأمس، بالأغنية الطليقة قبل سجْنها في مفردات، بالجمال الزائر المرتجف للّقاء بسبب عدم قدرته على المزيد من الانتظار والثبات بأجنحته في الهواء... وبأن يرتجف هو أيضاً في إسراف هذه اللّذّة الحسية فيما يتنفّس الصعداء.

هل تستطيع البشرية، اليوم، رغم عقلانيتها، وبراغماتيّتها، أو عدميّتها حتّى، التخيُّل ولو للحظة أشجارَ هذا الكون بلا حفيف؟ لنتقبّل، إذاً، بصدر رحْب "ارتجافات هذا الحبور المتفرّد الذي يستحيل وجوده بالفعل في أيّ نشاط إنساني آخر"، بتأكيد الشاعر نفسه.


* شاعر ومترجم من المغرب

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون